أهل سورية يحبون الملوكَ والنظامَ الملكي، ومع ذلك، بمجرد ما نالوا استقلالهم في سنة 1946، أعلنوا تأسيس الجمهورية السورية… ربما كان ذلك بتأثيرٍ من الدولة التي كانت مُنْتَدَبَة عليهم، أعني فرنسا المولعة بالنظام الجمهوري، وبالجمهوريات.
وللتعويض عن هذا الخلل النفسي، أخذ السوريون يُنَصِّبُون أنفسَهم ملوكاً في حياتهم اليومية، فبائع السحلب الذي كان يتجوّل في أزقة مدينة إدلب لم يتورع عن تسمية نفسه (ملك السحلب). وقديماً كان في بلدة معرتمصرين بائع خضار لُقب بالملك، لأنه كان يقول عن أية بضاعة يعرضها للبيع، حتى ولو كانت رديئة: والله إنها تُعْجِب الملك. ويمكنك أن تقرأ في شوارع مدينة حلب التي يدمرها الروس والفرس الآن، بالاشتراك مع ابن حافظ الأسد، شاخصات تشير إلى: ملك الفستق، وملك البرادي، وملك الفلافل، وملك الحِذاء، وأما في مدينة حمص فلا يوجد مَنْ يضاهي “ملك حلاوة الجبن” في الجودة والشهرة.
سائقو السيارات الشاحنة الكبيرة والصغيرة مولعون بالكتابة على مؤخرات شاحناتهم، فعدا عن العبارات التقليدية من قبيل (العين البصاصة تُبلى برصاصة) و(لا تلحقني… مخطوبة)، تجد كتاباتٍ تُعَبّر عن ولع السائقين بالممالك مثل: ملك الخط، وملك الكوع، آه منك يا دوزوتو يا ملك.
طالعتُ، قبل حوالي شهر، مقالةً صحافية عن ولع رئيس الوزراء السوري الحالي، عماد خميس، بإقالة مديري المؤسسات والشركات والدوائر الحكومية، حتى اكتسب، بين السوريين الذين لم يُهَجِّرْهم ابنُ حافظ الأسد حتى الآن، لقب “ملك الإقالة”، فهو متأثر، على ما يبدو، بذلك الوالي العربي المولع بالسجع، الذي كان يتفقد الرعية في بلاد فارس، وحينما زار والي قُمْ، قال له: أيها الوالي بـ قُمْ، قد عزلناك فقُمْ…، ولو أنه زار والي خراسان لقال له: يا والي خراسان، غادر هذا المكان.
وكان عماد خميس هذا، قبل أن يصبح رئيساً للوزراء، قد تنقل بين عدة مناصب، لها علاقة بالكهرباء، ثم أصبح وزيراً للكهرباء في كل التشكيلات الحكومية الأخيرة، وكان همّه الدائم قطع (طَفي) الكهرباء عن الأهالي، حتى نال، بجدارة واقتدار، لقب: ملك الطَفي.
لدى السوريين خاصية فريدة، ملخصُها أنهم ينظرون إلى الشخص الذي يحقق نجاحاً في عمل أو استثمار بعين الغبطة، وأحياناً الحسد، فحينما يفتتح أحدُهم في شارعٍ ما مطعماً، ويشتهر المطعمُ ويتقاطرُ عليه الزبُنُ، يُسارع آخرون إلى افتتاح مطعم قريبٍ منه، يبيع البضائع نفسها، وتُزَيَّنُ واجهته بديكوراتٍ مشابهة لديكوراته، وحتى اسم المطعم تراهم ينسجون على منواله، ويروى أن شخصاً افتتح مطعماً في أحد أحياء دمشق، أسماه “شاورما الملك”، وبعد أيام افتتح مطعماً بجواره يحمل اسم “ملك الشاورما”.
التقيتُ قبل أيام، هنا في إسطنبول، بصديقٍ قديم قادم من سورية للتو، حدثني، في أول لقاءٍ أمضيناه معاً، عن الحواجز العسكرية والأمنية التي أصبحت من المهن ذات الريعية العالية في سورية، فهي لا تحتاج إلى رأسمال، ويكفي أن يصعد العنصر الذي يحمل الكلاشنكوف إلى حافلة النقل العام ويقول: (يا الله، يا شباب، كل واحد يناولني ألف ليرة بلا أكل…). فيتجمع لديه، من كل حافلةٍ ما يقارب خمسين ألفاً. وقد اشتدتْ، في الآونة الأخيرة، المنافسة بين ملاكي الحواجز، وأصبح الحاجز الواحد يدرّ على صاحبه ما لا يقل عن نصف مليون ليرة سورية، يومياً، وقد اخترع أحدُهم حيلةً جهنمية، إذ أجرى للطريق العام تحويلةً تلتف حول أقرب جَبَل من الحاجز، فيضطر سائقُ الحافلة لأن يمرّ من الحاجز مجدّداً، ليدفع ركابه الإتاوة مرتين في كل سفرة، فاكتسب، عن جدارةٍ، لقب “ملك الحواجز”.
على هذا المنوال، أصبح لدينا طيار يحمل لقب “ملك المستشفيات”، وآخر لقبه “ملك الأسواق”، أما رأس النظام فأصبح معروفاً لدى معظم السوريين بلقب “أبو حافظ ملك البراميل”.
العربي الجديد