الحلول المطروحة للأزمة السورية الحالية في إدلب تنحصر بين خيارين: إما أن يضيق «الشريط الآمن»، وينحشر فيه ثلاثة ملايين شخص يعيشون حالياً في إدلب، 400 ألف منهم مهجرون من أماكن أخرى. وإما أن تدخل تركيا لاحتلال إدلب كما فعلت في حلب من قبل، لكي تضمن بنفسها التزام الميليشيات المتحالفة معها بما تم من قبل الاتفاق عليه في سوتشي. وهذا صداع تركيا في غنى عنه، ولا سيما مع الأوضاع الاقتصادية الحالية.
الناظر إلى الخيارين المتاحين في إدلب يرى مباشرة أن الضغوط فيهما تقع على تركيا. هي الطرف الذي عليه أن يفعل شيئاً. أما بالنسبة لروسيا فمن السهل جداً الرد على إردوغان في شكواه بانتهاك سوريا لاتفاق إدلب بأن الميليشيات المتحالفة مع تركيا هي التي نقضته أولاً، وأن سوريا أو غيرها لن ترضى بترتيبات يتحول فيها جزء من البلد إلى مركز لوجيستي للإرهابيين.
كان الاتفاق حين عقد شبيهاً بالآيس الكريم الذي اشتراه بوتين لإردوغان في زيارته الأخيرة. حلو الطعم، ومبهج، ومريح للأعصاب، ويمنح الحس بالمكافأة. لكن بعد قليل سيذوب ويتحول إلى أزمة نظافة. استفاد منه بوتين في إحراز نجاحات ميدانية كبرى لفريقه، واستفاد منه في ضرب بذرة خلاف بين إردوغان وبين الولايات المتحدة، وبين إردوغان وبعض الجماعات الميليشياوية التي كانت حليفة له والآن تعتقد أنه باعها. اعتبرت روسيا إدلب كالجندي المصاب، حمله أكبر على تركيا، لكنها تبقي على الأتراك في موقع من لديه ما يخسره. واعتبرت روسيا أن إدلب تمنحها فرصة التحكم في «يوم الحساب». سأمنح إردوغان بلدة واتفاقاً، وسأتركه ينتهك الاتفاق حتى يظن أنه لا يسأل عما يفعل، ثم في الوقت المناسب سأخرج له كشف الحساب وأبدأ فرض شروط جديدة.
إدلب، جيوسياسياً، ترفع الضغط عن روسيا وحلفائها. إيران لا تكترث لها، لأنها بعيدة عن الممر الاستراتيجي الذي تريده إيران من سوريا. وسوريا تريدها لأسباب معنوية في المقام الأول، فلا يمكن إعلان الانتصار إن كان جزءاً من الدولة لا يزال تحت سيطرة الخصم. لكنها ليست متعجلة. وتحت ظرف آخر، ربما اشتعال الصراع مع إيران، أو مواجهة واسعة النطاق بين «حزب الله» وإسرائيل، ستجد سوريا فرصة سياسية مناسبة لهجوم أكبر.
كل ما قلناه إردوغان يعلمه. من أوراق إردوغان الحديث عن فتح البوابات أمام الراغبين في الهجرة إلى أوروبا، كلما شعر أنه تحت ضغط، وهذه النبرة علت مؤخراً استصراخاً لمن يمكن أن يقدم له يد العون في أزمته في إدلب، التجسيد المصغر لأزمة في سوريا ستستمر معنا بالتأكيد أكثر مما استمرت آثار الحرب الأهلية اللبنانية التي انتهت قبل 29 عاماً، ولم تنتهِ.
التوازنات الحرجة كالأوقات الاقتصادية الحرجة، تعقد فيها أفضل الصفقات التجارية.
من الصعب أن نتوقع مستقبل سوريا، لكننا نعلم حقيقة واحدة. أن أي خطوة نحو ذلك المستقبل لا بد أن توازيها عملية إعادة إعمار تجعل الحديث عن عودة اللاجئين منطقياً، ويمكن أخذه على سبيل الجدية.
نعلم أيضاً أن سرداً سياسياً مختلفاً برز في سوريا، ولا يمكن إعادته حروفاً في كتاب صامت. سرداً يشبه ما أحاط بصدام حسين ونظامه الذي يخلط الاستبداد بالعصبية الطائفية. ونعلم أن هذا السرد لن ينطوي على نفسه.
ثم إن هناك وضعاً إقليمياً جديداً. في السابق استطاع السوريون الحفاظ على توازن دقيق بين تحالفهم مع «حزب الله» وإيران، وعدائهم البارد مع إسرائيل. الآن تغير هذا الوضع. لقد جلب بشار الأسد إيران و«حزب الله» إلى داخل نطاقه الجغرافي، ووفر مزيداً من الفرص لاحتكاك مشتعل بين إسرائيل من ناحية، وإيران وميليشياتها من ناحية أخرى. احتكاك من الصعب على سوريا الابتعاد عن شرره أو التنصل منه.
هذه النقاط الثلاث تقول إن مما يساهم في حل الأزمة السورية أن تعمل القوى الإقليمية الأخرى، ولا سيما في الخليج ومصر، على منح مخرج سياسي للرئيس الأسد، يخلصه من أحمال إيران و«حزب الله»، يعيد سوريا إلى عمقها الاستراتيجي في الخليج ومصر، يقوي جبهتها الداخلية في مقابل أطماع تركيا في أراضيها، وأخيراً، يعطي الأمل بعملية سلام جديدة مع إسرائيل، ربما تكون سوريا أكثر استعداداً لها، وإدراكاً بخطورة المراهنة خلف السلوك الميليشياوي والدعاية السياسية الدينية.
هذا الصراع خلق حاجة لدى بعض أطرافه لتجاوزه. والحاجة دافع لنجاح الصفقات.
# خالد البري_ جريدة الشرق الأوسط