على ضوء العروض الدولية والإقليمية المتسارعة للتوسط بين السعودية وإيران، من روسيا، وتركيا، والعراق، وباكستان، بات واضحاً أنّ ذروة الارتدادات المباشرة للاشتباك بين البلدَين انتهت عملياً، ودخل الطرفان في طور دراسة أفق التصعيد أو التهدئة على نار هادئة.
لم يكن قطع العلاقات الدبلوماسية على خلفية اقتحام السفارة والقنصلية السعودية في إيران، إلا “رأس جبل الجليد”.
فالعلاقات السعودية – الإيرانية متوترة منذ ثورة الخميني عام 1979. ووصلت إلى ذروتها خلال السنوات القليلة الماضية، على خلفية تدخلات طهران في الشؤون الداخلية العربية في لبنان، وسورية، والعراق، واليمن، والبحرين، والكويت، والسعودية، من خلال التصريحات الإعلامية المهاجمة للرياض عام 2015 على أقل تقدير.
وتصاعدت التصريحات الإيرانية إثر تدخل السعودية في الحرب اليمنيّة معلنة “عاصفة الحزم” ضد الحوثيين والرئيس المخلوع، علي عبدالله صالح، ودعمها للمعارضة السورية المسلّحة ضد نظام الرئيس السوري، بشار الأسد، وحادثة سقوط رافعة في الحرم المكي، والتدافع في منى أثناء موسم الحج.
وكان واضحاً في خطاب وزير الخارجية السعودي، عادل الجبير، عندما أعلن عن قطع العلاقات مع طهران، الأحد الماضي، أنّ الرياض تأخذ بعين الاعتبار في هذا القرار، تاريخ التدخلات الإيرانية في الإقليم. وأشار الجبير إلى أنّ القطيعة مع طهران، تأتي على خلفية الاعتداءات على السفارة والقنصلية، وتصريحات النظام الإيراني السابقة والممهّدة لهذا الاعتداء، بحسب الجبير، بالإضافة إلى استمرار سياسات إيران العدوانية في المنطقة.
وتأتي الدلالة الأهم في هذا السياق، في لقاء الجبير مع وكالة “رويترز”، بعد قطع العلاقات مع طهران، والذي أعلن فيه بشكل صريح وواضح، أنّ مشكلة السعودية مع إيران، تكمن في أنّ الأخيرة تتعامل باعتبارها “دولة ثورية” لا كـ”دولة طبيعية”. وأكّد أنّ العلاقات مع إيران يمكن أن تكون طبيعية في حال أصبحت إيران “دولة طبيعية لا ثورية”.
وهذا ينسجم مع عبارة أخرى كان يرددها وزير الخارجية السعودي، خلال الأشهر القليلة الماضية، وهي اعتبار إيران “دولة تحتل أراضٍ عربية”. والمقصود الهيمنة الإيرانية في العراق، وسورية، ولبنان، واليمن.
خيار التهدئة السعودي، إنْ تحقّق، سيعني التعامل مع الأزمة الحالية مع طهران بشكل سطحي، باعتبارها أزمة دبلوماسية سببها “تقني”، أي اقتحام السفارة السعودية في طهران، وقنصليتها في مدينة مشهد الإيرانية، وتجاهل الأسباب الحقيقية للأزمة. وفي هذه الحالة، ستكون الوساطات الدولية مجدية في حال اعتذرت إيران للسعودية بشكل مباشر، وهو أمر ممكن.
فقد كتبت طهران رسالة اعتذارية عن اقتحام السفارة والقنصلية، إلى الأمم المتحدة، وتعهّدت بحماية البعثات الدبلوماسية، كما شجب الرئيس الإيراني، حسن روحاني، عملية الاقتحام.
كما أنّ هذه الخطوة ممكنة، في حال رغبت الرياض بالتهدئة، لكنها لن تعني أي شيء على المدى الطويل. فكل القوى الإقليمية والدولية تدرك أنّ الخلاف السعودي – الإيراني ليس بسبب اقتحام السفارة والقنصلية، إنما لوجود رؤية مختلفة جذرياً للمنطقة، وبسبب انخراط السياسات الإيرانية في العراق، وسورية، واليمن، ولبنان، وساحات دولية أخرى بشكل أقل حدة.
في هذا السياق، لن يكون خيار التهدئة معبّراً عن تخفيف حقيقي للنزاع، أو عودة طبيعية للعلاقات بين الرياض وطهران، لكنها محاولة لإيقاف تطور الأزمة إلى مواجهة أكبر، سواء مباشرة، أو في الساحات المفتوحة للتنافس الإقليمي. وهي خطوة غير مرغوب بها دولياً على الإطلاق في الوقت الراهن.
آفاق التصعيد
على الضفة الأخرى، يبدو أنّ العالم العربي غير مستعد للتصعيد مع طهران. فعلى المستوى العربي، كانت كل من البحرين والسودان، الوحيدتَين اللتين اتخذتا إجراءات حادة تجاه طهران، توازي الخطوات السعودية، إذ قطعتا العلاقات الدبلوماسية، بالإضافة إلى جيبوتي، أخيراً. فيما اكتفت الكويت بسحب سفيرها من طهران، وخفّضت أبوظبي تمثيلها الدبلوماسي هناك، واستدعى الأردن السفير الإيراني في عمّان، مجبتي فردوسي بور، وسلّمه مذكرة احتجاج. وأدانت قطر اقتحام السفارة والقنصلية السعودية، وكذلك فعلت مصر.
وقد تكون “المفاجأة السعيدة” أتت أخيراً من تركيا، على لسان الرئيس رجب طيب أردوغان، الذي دافع عن السعودية وموقفها بوضوح، عندما جزم بأن الإعدام في السعودية هو “شأن داخلي” للمملكة، قبل أن يضرب على الوتر الحساس الذي يعني إيران، فخاطب النظام في طهران قائلاً ما يفيد بأن الإيرانيين يصمتون عن إعدام السوريين منذ 5 سنوات والآن يغضبون إزاء إعدام شخص واحد، في إشارة إلى الشيخ نمر النمر، مذكّراً العالم بأن الإعدام يطبَّق ليس في السعودية فحسب، بل في إيران أيضاً والولايات المتحدة.
وتساءل أردوغان: “أين كان العالم من أحكام الإعدام في مصر، وقد كان من بين المحكومين بالإعدام محمد مرسي، هل كان رئيس الجمهورية المنتخب إرهابياً؟ لم ينبس العالم ببنت شفة، وبقينا نحن الوحيدين الذين تحدثوا بالأمر”.
تأتي هذه الخطوات والمواقف، في ظلّ دعوات عربية أخرى للتهدئة، أبرزها موقف الجزائر والعراق، وأخرى غير مفسّرة، كالموقف العُماني الذي اكتفى باعتبار اقتحام السفارة والقنصلية السعودية، “أمراً غير مقبول”، رافضاً “التدخلات في الشؤون الداخلية للدول”، في إشارة إلى قطع العلاقات السعودية – الإيرانية. وتزامن ذلك، مع اجتماع السفير العمُاني في طهران، سعود بن أحمد البرواني، برئيس مجلس الشورى الإيراني، علي لاريجاني، وانتقد خطوات التصعيد السعودية، بحسب وكالات الأنباء الإيرانية، من خلال تصريح تم نفيه لاحقاً، من قبل وزارة الخارجية العُمانية.
أما دولياً، فالأمر لم يشذ كثيراً، إذ واصلت القوى الدولية دعواتها إلى التهدئة. والمثير في هذا السياق، غياب الأزمة السعودية – الإيرانية عن النقاشات الأميركية بشكل صارخ، إنْ على المستوى الإعلامي أو الحزبي الانتخابي، إذ لم يُطرح الموضوع على مستوى نقاشات المرشحين للانتخابات الأميركية الرئاسية للعام 2016، وكان العنوان الأبرز الأميركي هذا الأسبوع، شأناً داخلياً بحتاً، متمثلاً في خطوات الرئيس الأميركي، باراك أوباما، المنتظرة، في قضية ضبط بيع الأسلحة في الولايات المتحدة.
وهنا، يظهر أوباما مخلّصاً لنهجه السياسي، والمتمثل في عدم تورط واشنطن في صراعات المنطقة. فالرئيس الأميركي الذي أراد الاتفاق النووي مع إيران بأي ثمن، تجنباً لمواجهة مباشرة مع طهران، لن يقدم على هذه الخطوة اليوم، لأسباب كثيرة.
تأخذ الرياض في عين الاعتبار كل هذا السياق الأميركي، لذا تتحرك منفردة، بعيدة عن هوى الأخير، وأكثر ما تعوّل عليه ربما، أن تتمكن من نيل مواقف خليجية بالمستوى الذي تشتهيه الرياض، في اجتماع وزراء مجلس التعاون الخليجي، يوم السبت، حيث علمت “العربي الجديد” أن المملكة ستحاول الدفع باتجاه استصدار قرار خليجي بإلغاء الاتفاقيات الموقعة مع إيران، على الرغم من صعوبة ذلك بالنسبة لعدد من الدول الخليجية التي ترتبط بمصالح اقتصادية وغير اقتصادية لا بأس بها مع إيران.
أما اجتماع يوم الأحد لوزراء خارجية دول الجامعة العربية، فلا تعوّل عليه الرياض لعلمها بالانقسامات العربية الحادة حول كل الملفات.
بالعودة إلى الموقف الأميركي، فإن الولايات المتحدة لم تكن متحمسة للتدخل السعودي، عبر التحالف العربي في اليمن، لكنها لم ترفضه، حتى لا يظهر وكأن أميركا منحازة لإيران بعد الاتفاق النووي. وفي السياق ذاته، لن تصعّد واشنطن لهجتها ضد إيران اليوم، لأن إدارة أوباما لا تريد الانخراط أكثر في صراعات المنطقة، في ظل سعي الرئيس الأميركي لتمرير ولايته الثانية، بأمجاد إصلاحية تاريخية على المستوى المحلي الأميركي، من دون خسائر أو مغامرات دولية في سجلّه.
ماذا تبقى للرياض؟
السعودية ليست وحيدة، كما أنّها ليست معزولة دولياً، وعلاقاتها بالولايات المتحدة ليست سيئة بمعنى القطيعة، ولا جيدة لدرجة أنْ تخوض واشنطن صراعات الرياض نيابة عنها. لا تزال السعودية تعقد صفقات السلاح مع الولايات المتحدة، وهو أمر مهم جداً إذا تمّ التطرق للحديث عن اضطراب إقليمي. فالسعودية عقدت مع أميركا صفقات تسليح مختلفة، أخيراً، من ضمنها صفقة بقيمة 1.29 مليار دولا لشراء ذخائر، لتعويض ما فقدته السعودية في اليمن.
بالإضافة إلى صفقة أخرى مع شركة “لوكهيد مارتن” الأميركية، لشراء أربع سفن حربية، بقيمة 11.25 مليار دولار. يأتي هذا، في ظل تباين إعلامي في بريطانيا، يدفع بعضهم بأهمية أن يتم دعم الرياض في مواجهة طهران، والتي بدأت أيضاً تتحرر من عزلتها الدولية بعد الاتفاق النووي، مقابل محاولة الرياض عزلها عربياً.
هذا بالإضافة إلى أن مواقف الدول التي لم تتخذ خطوات تصعيدية ضد طهران، مثل باكستان، لا يمكن أن يفهم كانحياز لطهران، بقدر ما هو، على ما يبدو ظاهراً، محاولة لنزع فتيل أزمة قد تقود إلى تفجّر الأوضاع في المنطقة، المضطربة أساساً.
كما أنّ طبيعة الأزمة الراهنة، سمحت لدول الخليج بأن تتعاطى مع الموضوع بمنطق عدم التصعيد، مع الوقوف على الجانب السعودي خلال الأزمة، لكن هذا لا يعني أن هذه الدول لن تقف مع السعودية، وتصعّد أكثر، في حال تطور التوتر إلى نزاع مفتوح بين الرياض وطهران.
العربي الجديد