في السنة السادسة للحرب السورية تحذر الأمم المتحدة من الفوضى الشديدة في مدينة حلب
«ذروة الرعب». كلمتان فقط مغزاهما لا يخضع للتحليل. وقد كانت هناك حاجة إلى نائب امين عام الأمم المتحدة للشؤون الإنسانية، ستيفن اوبراين، من اجل وصف الوضع الحالي في المدينة السورية حلب. ومع دخول المواجهة الدموية في سوريا إلى سنتها السادسة، يجد سكان المدينة المقسمة صعوبة في رؤية النهاية أو رؤية أي تحسن.
«هذه هي الازمة الأكبر في زماننا»، كما وصف اوبراين الوضع في المدينة أول أمس، هذه المدينة التي يتم قصفها يوميا. وحسب الأمم المتحدة فإن الحرب في حلب أبقت 275 ألف انسان في الاحياء الشرقية بدون طعام، ماء، كهرباء وأدوية مدة أكثر من شهر. واضافة إلى ذلك فإن امكانية الوصول إلى حوالي مليون ونصف من السكان في المناطق الغربية «صعبة جدا».
«لا يوجد حليب في حلب، الحوانيت فارغة تقريبا، ورويدا رويدا يختفي الطعام. الوقود والتموين بشكل عام لا يوجدان ولا مجال للحديث عن الادوية»، هذا ما قاله أمس لصحيفة «هآرتس» عمر، وهو نشيط ميداني في مناطق المدينة الشرقية. «هذا يزيد الصعوبة على السكان الذين بقوا». وحسب اقوال عمر، تحول الوضع غير المحتمل في الايام الثلاثة الماضية إلى أكثر صعوبة. القوات الحكومية، كما قال، وضعت على المهداف الطريق الوحيدة التي تؤدي إلى خارج المدينة. «قوات النظام تقوم بقصف أي سيارة أو قافلة تمر في الشارع»، كما قال، «في الوقت الذي يقصفون فيه الاحياء جواً».
إن من بقي في تلك الاحياء التي يتم قصفها هم أبناء الطبقة الاضعف من الناحية الاقتصادية والاجتماعية. «هؤلاء الاشخاص ليس لهم مكان يذهبون اليه، ولا توجد لهم القدرة على الانتقال إلى مكان آخر. لذلك، بقوا في منازلهم وهم يتلقون النار». وأضاف عمر «نحن في وضع صعب جدا، والنظام ينتهج سياسة التجويع والحاق الضرر المتعمد من اجل كسر من بقي».
في الطرف الثاني من المدينة، في المنطقة التي يسيطر عليها نظام الاسد، الوضع افضل كثيرا، كما قال حسام، وهو أحد الناشطين المؤيدين للنظام. شيئا فشيئا، كما قال، الحياة تعود إلى الروتين. «في الاسابيع الاخيرة قدمت الحكومة مساعدات انسانية وغذاء»، كما قال أمس لـ «هآرتس»، «يمكنك أن تجد في الاسواق الاحتياجات الاساسية، وهناك توجه لتحسين البنية التحتية».
حسام على قناعة بأن المعركة على المدينة التي تقع في شمال غرب الدولة حسمت لصالح قوات الاسد. «وما بقي هو عدة احياء يتحصن فيها المتمردون».
لكن مثلما هي الحال في مجالات اخرى، فإن ما يظهر من غربي المدينة يبدو مختلفا من شرقها. في الوقت الذي يتحدث فيه مؤيدو النظام عن السيطرة على 65 في المئة من المدينة، فإن رواية المتمردين متوازنة أكثر ـ 50 في المئة لكل طرف. الامر الوحيد الذي يتفق عليه الطرفان هو روتين الحرب التي لا يعرف أحد متى ستنتهي.
لقد عبر عن هذا الشعور اوبراين بشكل جيد في أقواله حينما تحدث أمام مجلس الامن التابع للامم المتحدة حيث أشار إلى أنه لم ينجح أي وفد مساعدة في الوصول إلى المناطق المحاصرة في حلب في هذا الشهر، وحث كل الاطراف المتقاتلة على الموافقة على وقف إطلاق النار الاسبوعي لمدة 48 ساعة، من اجل ادخال المساعدات للسكان الذين هم في أمس الحاجة اليها. «نحن أمام خطر الفوضى الشديدة التي لا مثيل لها في السنوات الخمسة الاخيرة في كل ما يتعلق بسفك الدماء والدمار في الحرب الاهلية السورية»، قال.
وتوجه اوبراين بحديثه إلى اعضاء مجلس الامن المنقسمين بسبب الازمة السورية. «لديكم القوة من خلال القلم ـ جرة قلم بسيطة ـ من اجل السماح للناس بالحصول على الغذاء»، قال. وحسب اقواله فإن الأمم المتحدة قدمت في هذا الشهر طلبات من اجل تقديم المساعدات لمليون شخص محاصرين في المناطق التي يصعب الوصول اليها، لكن الحكومة السورية وافقت على أقل من نصفها ورفضت السماح بوصولها إلى الاماكن التي يسيطر عليها المتمردون في شرقي حلب. «هذا سباق ضد الزمن»، أضاف. «الحرب مستمرة والتقارير المزعزعة حول قصف المستشفيات والمدارس تستمر في الوصول. وقد تم قطع الكهرباء والمياه متوفرة بصعوبة والحركة محدودة».
صحيح أن روسيا قد أيدت في نهاية الاسبوع وقف اطلاق النار الاسبوعي، لكن الاطراف الاخرى المتقاتلة لم تتعهد بذلك. نائبة سفير الولايات المتحدة في الأمم المتحدة ميشيل سيسون، حثت موسكو التي هي الحليفة المقربة للرئيس السوري بشار الأسد على دعم التصريحات «بخطوات حقيقية تساعد على الوصول الآمن إلى مدينة حلب».
مساعدة تحت النار
بالنسبة للحكومة السورية تعتبر قوات الانقاذ المدنية قوات إرهابية.
في الوقت الحالي، وفي داخل هذه الفوضى، تظهر مبادرات محلية تحاول تقديم المساعدات، حتى لو قليلة، لأولئك الذين ما زالوا على قيد الحياة أو يناضلون من اجل ذلك. المنظمة التي برزت على خلفية أحداث الآونة الاخيرة هي «اصحاب الخوذات البيضاء»، وهي جهة تقوم بإنقاذ الناجين في المناطق التي يسيطر عليها المتمردون في دولة قامت الحرب بتقسيمها. واحد من بين الـ 3 آلاف شخص الذين تجندوا من أجل هذا الهدف هو محمود فضل الله. وقد تلقى تقرير قبل شهرين جاء فيه أن صاروخا قد أصاب أحد منازل حلب، الأمر الذي جعل زوجين عالقين تحت الأنقاض. وقبل دخول فضل الله وزملائه إلى المنزل المدمر اضطروا إلى انتظار سقوط الأجزاء المدمرة وزوال الغبار.
«صرخنا: نحن قوات الدفاع المدني، هل يسمعنا أحد؟»، وأضاف «لقد تواجدا في الطابق الارضي، والسقف الذي سقطت زاوية منه، هو الذي عمل على حمايتهما».
مرت 30 دقيقة إلى أن استطاع الطاقم الوصول إلى الزوجين وانقاذهما، واضافة اليهما قاموا باخراج أربع جثث، واحدة منها تمزقت إلى اربعة اشلاء بسبب قوة الانفجار.
بغض النظر عن شدة الصور، كانت هذه مهمة اعتيادية اخرى لقوات الدفاع المدني السوري. «الناس يموتون ونحن نركض نحو الخطر»، قال فضل الله. قبل الحرب عمل فضل الله في البناء، ولكن في هذه الايام فإن كل سوري لديه القدرة، فهو يعمل في الانقاذ. ومن بين اصحاب الخوذات البيضاء يمكن ايجاد طلاب، نجارين، محامين واطباء.
في الاسبوع الماضي فقط ثارت ضجة عالمية بسبب عملية انقاذ قاموا بها: عمران دكنيش الذي يبلغ الخامسة من عمره، صورة دكنيس وهو يجلس وحده في سيارة الاسعاف ومبلل ومغطى بالغبار والدماء، تحولت إلى رمز لضحايا المعارك في حلب.
هناك كثيرون ممن يتابعون نشاط اصحاب الخوذات البيضاء، وهم يسمون بهذا الاسم بسبب وضع الخوذات البيضاء على رؤوسهم. وهم يقومون بالمهمة «الاخطر» في العالم كما تقول عنهم، سواء المنظمات المدنية السورية أو المنظمات الدولية التي تتابع نشاطهم. ولكن هذه المنظمات ليست الوحيدة التي تراقب اصحاب الخوذات البيضاء تحت المجهر. الحكومة السورية ايضا تفتح عيونها. وعمليا، القوات الحكومية تقوم بقصف قوات الانقاذ التي تعمل على انقاذ الضحايا. «القصف المزدوج»، هكذا يسمون الطريقة التي يتم فيها القصف الجوي مرة تلو الاخرى لنفس الهدف. وبسبب هذه الطريقة قتل اثنان من طاقم فضل الله في شهر حزيران.
لقد واجه فضل الله حدثا مشابها في الاسبوع الماضي. ففي الوقت الذي حاول فيه هو وطاقمه انقاذ أحد الاشخاص من تحت الانقاض، سقطت عليهم صلية نار اخرى. «لقد رأوا أننا وصلنا فبدأوا بقصفنا بالراجمات والطائرات»، قال فضل الله، «الطاقم اختبأ في أحد المنازل المدمرة. وخمسة من اعضاء الطاقم ومن ضمنهم فضل الله أصيبوا بالشظايا وقُتل أحد اعضاء الطاقم الذي يدعى عمران هاره. قبل نحو عامين كان هاره في العناوين الدولية بعد انقاذه طفل عمره عشرة ايام، كان عالقا مدة 16 ساعة بين الانقاض. والآن لا أحد استطاع مساعدته. ايضا الناجي الذي وصل الطاقم من اجله، توفي بسبب القصف التالي».
حسب اقوال مركز المنظمة، رائد صالح، فإن 134 شخصا من اصحاب الخوذات البيضاء قتلوا اثناء قيامهم بمهات الانقاذ التي انقذوا خلالها 60 ألف شخص. ولكن حسب رأي من يؤيدون النظام، يعتبر هؤلاء الاشخاص «إرهابيون». وهذا مفهوم واسع تستخدمه الحكومة السورية لوصف معارضي النظام المسلحين. وهي تتهم اصحاب الخوذات البيضاء بتقديم المساعدة لهم. يصعب منع اتهامات كهذه في الحرب السورية، حيث أنه خلال السنوات الخمسة تم اتهام جميع الاطراف في الحرب بتنفيذ جرائم حرب. ويعمل اصحاب الخذوات البيضاء في مناطق مختلفة وهم على صلة دائمة مع السكان. بعض هذه المناطق تسيطر عليها منظمات المتمردين المشكوك فيها، ومنها «جبهة فتح الشام» التابعة للقاعدة.
وكما هي الحال في مجالات اخرى ترتبط بالحرب، فإن الموقف السائد لدى النظام السوري حول المنظمة، التي تعمل في 119 موقعا في أرجاء الدولة، غير متجانس بالضرورة مع الاصوات التي تُسمع في العالم.
معهد الشرق الاوسط في واشنطن أوصى بمنح هذه المنظمة جائزة نوبل للسلام للعام 2016. «إن منح وسام شرف للنشطاء الانسانيين الشجعان الذين في اغلبيتهم غير معروفين، يعبر عن القيم الحقيقية لجائزة نوبل للسلام»، كما قالت وندي تشمبرلاين، رئيسة المعهد.
حسب اقوال صالح، فإن الفوز بجائزة نوبل «سيرفع المعنويات»، لكنه ليس الاولوية. «سواء فزنا أم لا، نحن بحاجة إلى وضع حد لقتل المدنيين بواسطة القصف بدون تمييز في كل ارجاء الدولة».
الحياة عميقا تحت الارض
هناك 50 ولد يتيم يعيشون في الطابق الثاني تحت الارض.
في شرقي حلب يمزق القصف الشوارع الواحد تلو الآخر. وبين القتلى الكثيرين والمباني المدمرة هناك الاولاد الذين فقدوا آباءهم وهم يعانون من الصدمة على المدى البعيد. المحظوظون من بينهم يوجدون تحت الارض في المكان الذي فيه حياة. على عمق طابقين تحت الارض يوجد بيت الايتام «مميزون»، حيث ينام سكانه بشيء من الأمان، رغم أنهم يستيقظون وهم خائفون بسبب القصف الذي يدمر الشوارع فوقهم.
ويقوم بحراسة هؤلاء الاولاد الخمسين في الملجأ تحت الارضي، أسمر حلبي وزوجته التي ما زالت تعاني من اصابة نتيجة لقصف المدرسة قبل عامين.
تتراوح اعمار الأيتام بين 2 ـ 14 سنة. الآباء قتلوا أو اختفوا بطريقة فظيعة خلال سنوات الحرب.
«لقد تأقلموا بشكل ملفت مع هذه الحياة الفظيعة»، قال حلبي (50 سنة). «على سبيل المثال، كان الاولاد يخافون في السابق عند سماع صوت الطائرات، لكنهم اليوم يريدون الخروج لمشاهدة السماء ورؤية الطائرات أو المروحيات وهي تمر من فوق رؤوسهم».
كثير من الاولاد أصبحوا بلا مأوى، مثل عمر الذي يبلغ 12 سنة وأخته مفيدة التي تبلغ 13 سنة من عمرها، بعد أن قتل والدهما، وأمهما التي عانت من انهيار عصبي، اختفت، اضطرا للنوم في بيت الدرج في المبنى الذي يسكن فيه عمهما، الذي أجبرهما على طلب الطعام والصدقة في المدينة، كما قال حلبي. الآن هما يشعران بالأمان، نسبيا على الأقل.
لقد تم افتتاح الملجأ قبل سنة بسبب العدد الكبير للاولاد الذين فقدوا كل شيء. وهو قادر على البقاء بصعوبة بدون مساعدة. «أجرينا استطلاع بخصوص الاولاد الذين فقدوا أحد الوالدين أو كليهما واكتشفنا، للأسف، أن العدد كبير جدا»، قال حلبي الذي كان تاجر في مهنته قبل الحرب وليس لديه أبناء.
الملجأ لم يكن من المفروض أن يكون تحت الارض. لقد كان فوقها من قبل، وعلى مدى نصف سنة قام حلبي وطاقمه في ترميم المبنى حيث تحولت بعض الطوابق فيه إلى غرف للنوم. ولكن كل ذلك حدث قبل انضمام الطائرات الروسية إلى القوات التي تقوم بقصف متمردي حلب. بعد ذلك قرر القائمون على الملجأ عدم الاستمرار في هذا الوضع، فتم نقل الفرشات إلى تحت الارض وايضا انتقل جزء كبير من النشاطات التعليمية والرياضية إلى هناك كي ينجح الاطفال في النوم والاكل والتعليم بشيء من الأمان تحت الارض.
في الوقت الحالي، في ذلك المكان، يخضع 25 شخصا لإمرة حلبي، حراس، طباخون ومعلمون، يعلمون الرياضيات واللغة العربية والنسيج والقرآن. والاخصائيون النفسيون يلعبون دورا هاما في الملجأ، وهم يعملون هناك بوظيفة كاملة. وهم مسؤولون عن منطقة كاملة لتقديم العلاج.
احدى المشاركات الدائمات في تلقي العلاج هي ياسمين التي تبلغ 8 سنوات من عمرها، حيث وجدها المتطوعون للملجأ في الشارع وهي تتسول. وتبين أنها قد فقدت والديها. وعندما وصلت خافت من العتمة. والآن، كما يقول حلبي، بدأت تنمو وهي على رأس الصف.
«عندما يصل الاطفال تكون حالتهم صعبة بسبب ما مر عليهم، ولكن بعد بضعة اشهر يتحسن وضعهم»، «هدفنا هو الدفاع عنهم وتعليمهم من اجل نجاحهم مستقبلا.
اغلبية الاطفال فقدوا والديهم في الحرب المتواصلة، وفقط 5 في المئة فقدوا أحد الوالدين، لكن من بقوا على قيد الحياة يعانون من مشكلات نفسية شديدة، الامر الذي يمنعهم من رعاية أبنائهم».