مع دخول عملية «درع الفرات» العسكرية التي يخوضها الجيش التركي في سوريا يومها السابع، وإجماع عدد كبير من المحللين والمراقبين على أن العملية ستتواصل لفترة طويلة مقبلة، بدأت التساؤلات تتزايد داخلياً وخارجياً عن مدى قدرة الحكومة والجيش التركي اللذين لم يتعافيا بعد من محاولة الانقلاب على خوض معركة عسكرية طويلة الأمد في سوريا وتَحمل الفاتورة السياسية والعسكرية والاقتصادية لهذه المعركة.
فالجيش التركي التي نفذ جزءا كبيرا من كبار قياداته في القوات الجوية والبحرية والبرية محاولة الانقلاب الفاشلة منتصف الشهر الماضي، تعرض لهزة غير مسبوقة من خلال اعتقال الآلاف من عناصر وقياداته، إلى جانب تبديل أكثر من ثلث كبار الجنرالات.
وعلى الرغم من أن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان وكبار مسؤولي الدولة قالوا إن عملية التطهير التي جرت في أوساط الجيش ستزيد من قوته وتماسكه وقدرته على المواجهة، إلا أن العديد من الأوساط الأخرى والجهات الدولية ومنها الولايات المتحدة عبرت عن خشيتها من الآثار السلبية الكبيرة لمحاولة الانقلاب وعملية التطهير اللاحقة على قوة الجيش وحرفيته وقدرته على المواجهة.
بحسب آخر تعداد سكاني في تركيا لعام 2016، بلغ عدد سكان الجمهورية 79 مليون نسمة، يصنف 41 مليون منهم تحت بند القوة البشرية الفاعلة، لكن العدد الفعلي لقوات الجيش التركي بكافة أقسامه بلغ 410 آلاف جندي، بالإضافة إلى 185 ألف الاحتياط، وذلك بحسب آخر إحصائية نشرها موقع (قلوبال فاير باور) المتخصص بتصنيف الجيوش العالمية، بحسب ما اطلعت عليه «القدس العربي».
ولدى الجيش التركي 3778 دبابة عسكرية، وقرابة 7500 عربة مدرعة، وأكثر من 1000 بطارية صواريخ، و700 مدفع ثقيل، بالإضافة إلى 811 قاعدة إطلاق صواريخ بعيدة المدى.
جوياً، يمتلك سلاح الجو التركي ما مجموعه 1007 طائرات حربية، 207 منها طائرات حربية مقاتلة، و207 طائرات هجومية، و439 طائرة نقل عسكرية، و276 طائرة تدريب عسكرية، بالإضافة إلى 445 طائرة مروحية، و64 مروحية حربية هجومية.
وتمتلك القوات البحرية التركية ما مجموعة 115 قطعة بحرية حربية، منها 16 فرقاطة حربية كبيرة، و8 سفن حربية، و13 غواصة حربية، و29 سفينة، و15 زورقا صغيرا.
زلزال الانقلاب وأثره على فعالية الجيش
الرواية التي تبثها وسائل الإعلام التركية المقربة من الحكومة والحزب الحاكم تقول إن كبار جنرالات الجيش الذين أشرفوا على محاولة الانقلاب هم من كانوا يعيقون تنفيذ العملية العسكرية في سوريا والتي كان مخططا لها منذ سنوات وبدأت الآن في ظل ظروف ومعطيات سياسية وعسكرية أصعب من السابق، معتبرين أن أداء الجيش سيكون أكثر مثالية بعد عملية التطهير التي طالتهم.
هذه الرواية لا تبدو مقنعة للكثير من الأطراف المحلية والدولية والتي تُجمع على أن عزل واعتقال آلاف الجنود والضباط من وحدات الجيش الهامة سيكون له بكل تأكيد تأثير على قوة وفعالية الجيش، خاصة وأن الإقالات والاعتقالات شملت ما مجموعه قرابة ثلث كبار الجنرالات وتم تعيين جنرالات جدد في مواقعهم لا يمتلكون الخبرة والفاعلية نفسها.
وتعتبر القوات الجوية من أكثر الوحدات التي تعاني من نقص عقب محاولة الانقلاب حيث تم عزل واعتقال العشرات من الطيارين الفاعلين وذوي الخبرة العالية نتيجة مشاركتهم في الطلعات الجوية ليلية الانقلاب، وفي محاولة لسد العجز فتحت هيئة الأركان الباب أمام عودة الطيارين المفصولين والمتقاعدين إلى عملهم من جديد.
كما أن قوات الجندرما التي تصدرت محاولة الانقلاب كانت الجهة المخولة بحفظ أمن الحدود السورية الممتدة على طول أكثر من 900 كيلومتر، حيث تم إقالة قائد الجهاز والضباط المسؤولين عن أمن الحدود، وتغيير هيكلية وتبعية عمل الجندرما التي باتت لوزير الداخلية بشكل مباشر.
الاقتصاد التركي وفاتورة السلاح
الاقتصاد التركي الذي تكبد خسائر بقيمة 90 مليار يورو بسبب محاولة الانقلاب الفاشلة بحسب إحصائية رسمية أعلنها وزير الاقتصاد، يعاني أصلاً في السنوات الأخيرة من التراجع الكبير جداً في أعداد السياح وتراجع أقل في مستويات التجارة بسبب التفجيرات الإرهابية التي ضربت البلاد، وأزمة الطائرة الروسية مع موسكو، والخلافات التي ضربت علاقات أنقرة مع العديد من دول المنطقة والعالم.
في المقابل، زج الجيش التركي ومنذ انطلاق عملية «درع الفرات» بأكثر من 50 دبابة وعشرات الآليات العسكرية إلى داخل الأراضي السورية، فيما يواصل نقل وتحريك مئات الدبابات والمدرعات العسكرية إلى طول الشريط الحدودي وهي أرقام سوف تتصاعد مع إطالة مدى العملية وتوسعها.
كما أن الطائرات الحربية التركية تواصل تنفيذ غارات مكثفة على مواقع تنظيم الدولة الإسلامية «داعش» ووحدات حماية الشعب الكردية، وذلك بالتزامن مع إطلاق مئات القذائف المدفعية والصواريخ الموجهة بشكل يومي منذ بدء التدخل المحدود حتى الآن، وستشكل جميعها عبئاً ماليا ضخما على ميزانية الدولة وفاتورة باهظة يتطلب على الحكومة التركية سدادها طالما استمر التدخل العسكري خارج حدود البلاد.
توسع دائرة «الابتزاز الأمريكي»
إلا أن الأخطر من ذلك بشكل عام، هو الخشية من العودة بشكل أكبر بكثير إلى مربع «الابتزاز» الأمريكي. فأنقرة التي تمتلك ثاني أكبر جيش في حلف شمال الأطلسي «الناتو» لا زالت تعتمد على السلاح الأمريكي بشكل كبير، خاصة ما يتعلق بسلاح الجو، وذلك على الرغم من مساعيها الحثيثة لتعزيز صناعاتها العسكرية والدفاعية، وخطابات أردوغان المتكررة عن جهوده لتحقيق الاكتفاء الذاتي للجيش التركي.
فواشنطن التي وفرت غطاءاً مبدئياً للتدخل التركي في سوريا يمكن أن تعود لسحب هذا الدعم تحت ضغط التهديد بوقف تزويد أنقرة بالأسلحة المطلوبة لاستمرار المواجهة في سوريا، أو عبر الضغط الاقتصادي والمطالبة بدفع فاتورة السلاح التي ستتضخم مع الوقت، خاصة بعدما حولت أنقرة من تركزها على ضرب «الدولة» إلى تحقيق هدف طرد الوحدات الكردية ـ المدعومة أمريكاً- إلى شرق نهر الفرات.
كما يمكن لواشنطن أن ترفع الغطاء السياسي والعسكري عن العملية التركية، وهو ما بدأ يلوح في الأفق، الاثنين، حيث أعلن المتحدث باسم وزارة الدفاع الأمريكية بيتر كوك أن واشنطن تتابع بـ»قلق شديد» الاشتباكات بين الجيش التركي ووحدات حماية الشعب الكردية في شمالي سوريا، معتبرةً هذه الاشتباكات «غير مقبولة وتشكل مصدر قلق شديد.. لا ندعم هذه الاشتباكات».
وعلى الرغم من ذلك أعلن وزير الخارجية التركي مولود جاويش أوغلو، الاثنين، لأول مرة أن مهاجمة الوحدات الكردية يأتي في إطار عملية «درع الفرات» مؤكداً أن بلاده ستواصل ضرب وحدات حماية الشعب الكردية في شمالي سوريا ما لم تنسحب إلى شرق الفرات، وهي إشارة أخرى على صدام أمريكي تركي قادم حول العملية المتواصلة في سوريا.
وعلى الرغم من أن الجيش التركي لم يفقد حتى الآن سوى أحد جنوده في المعارك، إلا أن استمرارها وتوسعها والدخول في مواجهات حقيقية مع تنظيم «الدولة» والوحدات الكردية، سيضطر أنقرة إذا لم تستطيع المحافظة على الغطاء الأمريكي والروسي، إلى تحمل فاتورة باهظة سياسياً وعسكرياً واقتصادياً واللجوء مجدداً إلى واشنطن للمساعدة في التوصل إلى حلول تنهي العملية وتلبي الحد المعقول من مطالبها المتعلقة بأمن الحدود وما تسميه «الخطر الكردي».
إسماعيل جمال_القدس العربي