تتوافر في قصة حياة الشيخ اللبناني أحمد الأسير التي تقترب حثيثا إلى نهايتها الكثير من العناصر السياسية (والدرامية) الشديدة الإثارة والتعقيد بدءاً من ترعرعه في إطار عائلة بعيدة عن التدين ولها علاقة بالطرب والغناء بحكم مهنة والده كمطرب وعازف عود، وكون والدته من الطائفة الشيعية وسكن أهله أيضاً في حارة تسودها أغلبية شيعية، وإقامته بعد أن تزوج ورزق ثلاثة أبناء في قرية مسيحية، وهي كلها ظروف، لو كانت في مجتمع طبيعي، لربما كانت دفعت بالأسير إلى أن يكون شخصا منفتحاً على الآخرين وذا عقلية متسامحة مع الطوائف الأخرى، لكن الذي حصل كان معاكسا تماماً لهذا الاحتمال وهو ما أدى به إلى مصيره التراجيدي الحالي بعد أن حكمت المحكمة العسكرية عليه بالإعدام.
سيرة الأسير (الذي تلقبت عائلته، حسب مصادر، بهذه الكنية بعد أسر جدّ له خلال قتاله الاحتلال الفرنسي) هي انعكاس لاختلال الحياة السياسية في لبنان ومحيطه. لقد كان الدافع الأول الذي اتجه به إلى التسيّس هو الاجتياح الإسرائيلي للبنان عام 1982 فبعد هذا الحدث المفصلي في تاريخ البلد وتاريخه الشخصي انتسب الأسير إلى «الجماعة الإسلامية اللبنانية» من عام 1985 حتى 1988 وشارك من خلال هذا التنظيم بهدف العمل المقاوم للاحتلال الإسرائيلي، لكنه انتقل بعد ذلك إلى منظمة «الدعوة والتبليغ» عام 1989 حيث تحوّل انخراطه في الشأن العام إلى الدفاع عن الهوية الثقافية للسنّة مع اتجاه متزايد لمقاومة سيطرة «حزب الله» على المجال العام اللبناني.
بين حدث اجتياح إسرائيل للبنان الذي أزاح حركة المقاومة الفلسطينية وضرب حلفاءها عام 1982 وفتح المجال لسيطرة النظام السوري و«حزب الله» على المجال العام، وحدث الثورة السورية عام 2011 حصل تغير مفصلي لدى الشيخ بحيث اجتمع رفض الدولة اللبنانية مع انكسار دور السنّة اللبنانيين داخل المجتمع، وصعود «حزب الله» وانتهت المواجهة، عملياً، بتكبد تنظيم الأسير خسائر كبيرة في الأرواح وتحوله إلى شخص مطلوب من العدالة.
… باستثناء أن العدالة اللبنانية أصبحت خاضعة لموازين القوى الكاسحة التي تشارك فيها أضداد: الإسرائيليون الذين هجّروا المقاومة الفلسطينية خارج لبنان، والنظام السوري الذي طارد ياسر عرفات في طرابلس وأخرجه وشق حركة «فتح»، ثم «حزب الله» الذي تسيد المشهد، بحيث راقب اللبنانيون حيثيات الإفراج عن أشخاص مثل الوزير السابق ميشال سماحة المتهم بتدبير مؤامرة لتفجير أماكن عبادة واغتيال شخصيات سياسية ودينية، والضابط فايز كرم، الذي ثبت تعامله مع المخابرات الإسرائيلية، كونه كان محسوباً على تيار العماد ميشال عون.
يبقى القول إن اتجاه أحمد الأسير أثبت فشله ومكّن خصومه، عبر أخطائه العسكرية والسياسية، من القضاء عليه، كما أثبت أن التشدد والتطرف بيئتان مثاليتان لإمكانيات التلاعب وتحويل ما يبدو جهادا من أجل العدالة والحق إلى مشروع كارثي على أصحابه وعلى الطائفة التي يتنطعون لتمثيلها والنطق باسمها.
غير أن من نافل القول إن انغلاق الأجواء السياسية وغطرسة الاحتلال والاستبداد والغلبة الطائفية في المنطقة ولبنان سيؤدي، من دون شك، إلى جولات تاريخية أخرى من الكوارث التي سيدفع ثمنها الجميع.
القدس العربي