تعتبر المسألة الكرديّة في تركيّا وسوريا والعراق وإيران إحدى القضايا الكبرى المفتوحة في الإقليم مما جعلها موضوعاً دائماً للتدخّلات الإقليمية والدولية، وقد سمح هذا الجرح التاريخي المفتوح منذ عقود طويلة – معطوفاً على أزمات المنطقة العميقة – لإمكانيات التنافس والتدخّل والتوظيف بحيث وجدت دول عديدة في الأحزاب والحركات المسلحة الكثيرة الكرديّة استعداداً للعمل ضد أنظمة بلدانها (أو مع أنظمة بلدانها ضد شعوبها!)، وضد القوى الكرديّة الأخرى، كما هو حال الحزبين الديمقراطي والاتحاد الوطني في العراق، وحال حزب العمال الكردستاني التركي وفرعيه السوري (حزب الاتحاد الديمقراطي) والإيراني (الحياة الحرّة).
شكّل اندلاع الثورة السورية عام 2011 فرصة كبيرة لحزب العمال الكردستاني وتشكيلاته المحلّية السورية، فردّاً منهما على تدخل تركيا لصالح الثورة السورية قام النظامان الإيراني والسوري بدعم حزب «الاتحاد الديمقراطي» وتسليحه وتسليمه مهمة فصل المناطق الكردية عن الحراك الثوري ضد نظام الأسد وصدّ فصائل المعارضة السياسية والعسكرية.
ما لبث الحزب أن فتح قنوات اتصال مع الأوروبيين والأمريكيين وكانت تلك فرصة تاريخية لحذفه من قائمة المنظمات الإرهابية وتعهيده، هو نفسه، مهمة «مكافحة الإرهاب» التي راجت مع انتشار الحركات الجهادية السلفية المسلّحة التي ظهرت بعد القمع الرهيب الذي تعرّض له الحراك المدني والعسكري الثوري.
مقابل التصعيد الكبير للقتال في المناطق التي ينتشر فيها حزب العمال الكردستاني ضد السلطات التركية، وسيطرته المباشرة على مناطق سورية كبيرة، والتوسّع من جبال قنديل إلى سنجار العراقية، فقد عمل الحزب على منع أي حراك في المناطق الكرديّة الإيرانية، عملاً بترتيبات صفقته الواضحة مع إيران.
مع دخوله على خط محاربة تنظيم «الدولة الإسلامية»، زادت قائمة زبائن الحزب المذكور، الذي تم التغاضي عن كونه على «قائمة الإرهاب» الأوروبية، وخوضه حرباً ضروساً ضد تركيّا (تدخل ضمن أساليبها العمليات الانتحارية ضد المدنيين)، كما تم تجاهل تحالفه العضويّ مع نظامي علي خامنئي وبشار الأسد، وصار الحزب على رأس قائمة الزبائن، الولايات المتحدة الأمريكية والدول المتحالفة معها، والتي لم تكتف بتقديم الغطاء الجوّي والدعم العسكري له بل صارت أحياناً ترفع علم الحزب على مركباتها العسكرية أو تسمح له برفع الأعلام الأمريكية لحمايته، وتم تفريغه، في سوريا والعراق، للمهمّة المطلوبة منه حاليّاً: قتال تنظيم «الدولة».
الحزب الكرديّ الذي، من بين إنجازاته الكثيرة، اضطهاده لكل الأحزاب الكرديّة التي تقف في وجهه، انضاف زبونان جديدان لقائمة طالبي خدماته هما السعودية والإمارات.
رئيس حزب «الاتحاد الديمقراطي» صالح مسلم (الذي من تصريحاته الشهيرة خلال الأزمة السورية إبعاد التهمة عن نظام الأسد بعد قصفه ريف دمشق بالأسلحة الكيميائية واتهام المعارضة بقصف نفسها!) أصبح فجأة ضيفاً دائماً على الوسائل الإعلامية للسعودية والإمارات غير أن المهمة المطلوبة منه لا علاقة له بقمع معارضيه الأكراد والسوريين، أو بقتال تنظيم «الدولة»، وتتلخّص، حاليّاً، بكيل الاتهامات لتركيا… وقطر وتأييد الحصار ضد الأخيرة.
يدخل الأمر إذن في عقد توظيف إضافيّ جديد ومجز للحزب الكرديّ السعيد الحظّ، والذي تكاثر محبّوه وأصدقاؤه وزبائنه، الذين يجمع بين كثيرين منهم، على ما يبدو، هذا العداء القديم لتركيا، والمستجدّ لقطر، ولو كانت غنائمه، في النهاية، تصبّ في صالح إيران.
غير أن هذه العلاقة الزبائنية الجديدة لا يمكن أن تمرّ من دون أن تترك أسئلة مزعجة ومنها، على سبيل المثال، من هم أعداء السعودية الحقيقيون: هل هي قطر التي تتشارك معها الحدود البرّية والأنساب والعشائر والدين والمذهب والمصالح، وتركيّا التي تواجه إيران وحلفاءها في سوريا والمنطقة العربية، وتعبّر بصراحة عن استعدادها للدفاع عن الخليج العربي ضد أعدائه، أم إيران وحلفاؤها المتربّصون بها في اليمن والخليج العربي والعراق وسوريا ولبنان، وبينهم زبونها الجديد: حزب العمال الكردستاني التركي؟
القدس العربي