آب/اغسطس 2016: وجهت محكمة ميامي الإتهام للغواتيمالي راوول أرتورو كونتريراس بإدخال أكثر من خمسة كيلوغرامات من مادة الكوكايين إلى الولايات المتحدة.
آذار/مارس 2017: أمر بإخلاء سبيل كونتريراس بكفالة زهيدة قدرها مئة دولار، نظرا لإدلائه معلومات وصفت بالمهمّة حول الشبكة التي يعمل لحسابها.
ليست الشبكة التي ارتبط بها كونتريراس غير واحدة من شبكات عديدة يوجّه الإتهام الأمريكي بشأنها أكثر فأكثر بأن «حزب الله» اللبناني ينظّمها في الأمريكيتين، وتدرّ له أموالاً طائلة، بالتعاون مع جهات نافذة في فينيزويلا و»القوات المسلّحة الثورية الكولومبية» وكارتيلات مكسيكية. بطبيعة الحال، يعتبر الحزب هذه الإتهامات جزءاً من الحملة الإمبريالية عليه، خاصة وأنّ الإتهامات من هذا النوع ليست جديدة، بل هي تارة تتصاعد وتارة تنخفض، منذ مطلع الثمانينيات.
يبقى أنّ إدارة الرئيس دونالد ترامب قرّرت تناول الحزب من هذه الخانة بالتحديد، أو بالأحرى من خانة «الإقتصاد السرّي» له في غرب أفريقيا والأمريكيتين، الذي يمدّه بأموال تزيد عن المخصصات الإيرانية له، بل يحوّل الحزب إلى مشروع إيراني مربح مالياً وليس فقط أيديولوجياً أو عسكرياً. في نفس الوقت الذي استعاد المهرّب كونتريراس حريته بمبلغ مئة دولار بعد ادلائه بإعترافاته، كان يلقى القبض على رجل الأعمال قاسم تاج الدين في الدار البيضاء، ثم ينقل إلى الولايات المتحدة، المتهم فيها، من بين أشياء عديدة، بالتحايل على قوانينها، والتعامل مع شركات داخلها، بمسميات وهمية، رغم الحظر المفروض على التعامل معه منذ عام 2009، بتهمة إرتباطه بتأمين مصادر مالية إلى الحزب.
«الإقتصاد السرّي» لـ»حزب الله» عابر للبلدان، لكنه يبدو الجانب الأكثر «إستقلالية» في الحزب عن الجانب الإيراني، مع أنّ الحزب يفضّل دائماً القول بأنّ كل تمويله يأتي من إيران. رغم إن إدارة ترامب تعيب على الإدارة السابقة الرخاوة في تعقّب الأنشطة التمويلية للحزب في أفريقيا الغربية والأمريكيتين، فإنّ التشدّد الأمريكيّ المالي حيال الحزب لوحظ في آخر عام من رئاسة باراك أوباما. فقبل عام بالتمام، أثار التقيد بالتعميمات الأمريكية لتقييد حركة انتقال رؤوس أموال الحزب مشكلة بين الأخير وبين كل من المصرف المركزي والمصارف الخاصة في لبنان، وسوي الأمر بمزيج من سياستي «العصا والجزرة»، لكن أيضاً بمزيج من ارتضاء المصارف بالأمر الواقع الذي يفرضه الحزب، ونجاحها في الخروج بمظهر «المغلوب على أمره» ما بين نارين، مع إستفادتها في وقت واحد مما تجنيه جراء «تعاونها» مع الحزب، من بعد «الدعابة» الثقيلة التي نالتها منه، ومما تجنيه جراء تعاون المصرف المركزي مع المؤسسات المالية الدولية ومع التوجيهات الأمريكية، ومن توثيق عرى التضامن بين المصرف المركزي والمصارف الخاصة من خلال «الهندسة المالية» التي اعتمدها المصرف المركزي الصيف الماضي، باستبدال سندات الدين بالعملة اللبنانية بسندات دين بالعملات الأجنبية، وشرائه سندات خزينة بالليرة اللبنانية من المصارف الخاصة مع فوائدها غير المستحقة، الأمر الذي درّ على المصارف الخاصة وكبار المودعين أرباحا خيالية (خمسة مليارات دولار) في خمسة أشهر.
مع ذلك، تبقى التسوية الضمنية بين المصارف وبين «حزب الله» هشّة، ومعرّضة لإختبارات قوّة جديّة في حال وسّعت الإدارة الأمريكية سياسة تعقباتها المالية ضدّ الحزب. بانتظار إتضاح الصورة أكثر، لا يمكن للحزب الذهاب بعيداً في مواكبة حملة الناشطين المدنيين الداعين لإصلاح ضريبي جدي في لبنان بفرض ضرائب على أرباح المصارف الخاصة والشركات المالية، كما لا يمكن للحزب سحب هذه الورقة الضاغطة من يده كلياً. نفس الترتيب تقريباً بالنسبة لمعركة إبقاء الحاكم الحالي للمصرف المركزي في منصبه أو تبديله. ما بين رئيس الحكومة المؤيد بوضوح لبقاء رياض سلامة في منصبه، وبين المناخ المحيط برئيس الجمهوري والداعي لإستبدال سلامة بشخص مقرّب من الرئيس عون، لا يمكن لـ»حزب الله» المخاطرة منذ الآن بتقرير موقف واضح في هذا الشأن: شخص مقرّب من عون، ومنه، في حاكمية المصرف، قد لا يخدمه عملياً، بنفس الطريقة التي يمكنه أن يخدمه فيها شخص «متذبذب» يفهم في نفس الوقت لعبة «العصا والجزرة»، ولا يمكن للأمريكيين احتسابه على الحزب. في نفس الوقت هذا يخضع تحديداً لحجم الضغط الأمريكي على المصرف المركزي وعلى النظام المالي اللبناني في هذه الفترة، والطريقة التي سيتفاعل بها الحاكم مع هذا الضغط، ومع الضغوط الإستباقية أو المضادة التي سيمارسها الحزب أو الموالين له.
في الوقت المستقطع، إلى أن يلوح الكباش مجدداً حول موضوع حركة أموال «حزب الله» والمصارف، تحاول الحكومة اللبنانية التفاعل ايجاباً، وما باليد حيلة، مع ضغوط غربية متصلة بأمن مطار بيروت، الواقع عملياً في منطقة النفوذ المباشر لـ»حزب الله» والذي كان المفاوض اللبناني «نجح» في تفادي شمله بمندرجات القرار 1701 في نهايات حرب تموز.
غير بعيد عن المطار، يسيّر الحزب دورية من أنصاره بدعوى مكافحة المخدّرات، ليعود و»يوضح» في اليوم التالي أنّها مبادرة فرعية وغير صادرة عن جسمه القيادي: نفس موال «الأهالي» الذي سمعناه منذ اقتحام «الأهالي» لمراكز قوات الطوارىء الدولية في جنوب لبنان وصولاً إلى انطلاقة عملية «7 أيار» للسيطرة على بيروت الغربية تحت يافطة تظاهرة لـ»الإتحاد العمالي العام». لا يعني هذا في المقابل التبرير للرياء المقابل، الذي يحاول التعامل مع الحركات الاحتجاجية والمطلبية في أحيان كثيرة على أنّها على غرار معزوفة «الأهالي» لدى «حزب الله». في نفس الوقت، لا يمكن التغاضي عن نظرة الحزب إلى هذه الحركات الإحتجاجية، من موقع أنّه «قد يحتاجها لاحقاً»، وأنّه حين يحتاجها سيعرف كيف يؤمّن حاجته منها. عدم وجود مقاربة جدية بشأن طبيعة «حزب الله» في الإجتماع والسياسة اللبنانيين، وسمات «إقتصادياته السرية»، وعدم وجود مقاربة ناضجة بشأن العلاقة المركّبة بين الحزب وبين النظام المالي اللبناني، يسهّل بشكل عام «عدم مناعة» المناخ الإحتجاجي المطلبي في لبنان تجاه مجالات توظيفه، أو نصف توظيفه، في هذا الإتجاه.
وإذا كان أخصام الحزب المحليون اهتموا بالتندّر بمفارقة مكافحة شباب الحزب لشبكات اتجار بالمخدرات صغيرة في الضاحية الجنوبية، في مقابل استقبال قادة في الحزب لمتهمين كبار في هذا الشأن، وبتورّط أقرباء من بعض هؤلاء القادة في صناعة حبوب «الكابتاغون» والترويج له، فإنّ كل موضوع «حشيشة الكيف» البقاعية، و»الكابتاغون» ـ فخر الصناعة اللبنانية، يبقى ثانوياً، حيال الملف الذي يفتح أكثر فأكثر أمريكياً وأمريكياً ـ لاتينياً، والمتصل بمصادر الإقتصاد السريّ العابر للبلدان لـ»حزب الله». كذلك، حركة تقييد حركة رؤوس أموال الحزب في المصارف اللبنانية، تبقى فرعية نسبة لتقييد حركة المساهمين الماليين مع «حزب الله» على غرار تاج الدين.
بقي أن دونالد ترامب قرّر التصعيد مع الحزب والتليين مع النظام السوري، في الوقت الذي يقاتل فيه الحزب إلى جانب النظام في سوريا. هذا الاختلاف في التعاطي مع حليفين متشابكين إلى هذه الدرجة يحوي، مهما استطعنا ان «نعقلن» الأمر، على مفارقة، مفارقة لا حلّ لها، الا بواحد من اثنتين على المدى الأطول: إما بلجم التصعيد مع الحزب لاحقاً، وإما إلى العودة والإصطدام جدياً بنظام آل الأسد.. لاحقاً أيضاً.