يطالعنا اليوم العالمي لمساندة ضحايا التعذيب في وقت تصاعدت فيه هذه الكارثة الحضارية الكبرى في بلداننا العربية بشكل مخجل يحطّ من إنسانيتنا كمجموعة بشرية ويجعلنا نتساءل عن أسباب هذه الهاوية التي انحدرت إليها دولنا وأنظمتنا.
ولا تكاد تطلع شمس ويغرب ليل من دون أن نرى شرائط مصوّرة فظيعة أو نسمع بقصص مهولة أو نضم ما يحصل لأقارب أو معارف لنا في هذا البلد أو ذاك، لموسوعة عربية طويلة قوامها إهدار الكرامات وهتك الأعراض وسحق الرؤوس والأعضاء والتمثيل بالأجساد وتدمير أعمار بشر وهدر فرص شعوب في الحياة الكريمة.
وإذا كان لا يصحّ (نظرياً) اعتبار إسرائيل ضمن المنظومة العربية، فلا بأس أن تكون أمثولة للنظام العربي في أداء آلتها التعذيبية المستمر منذ نشوئها الذي أرّخ نكبة الفلسطينيين عام 1948 وحتى الآن والذي يقدّر رئيس شؤون الأسرى الفلسطينيين عيسى قراقع أنها اعتقلت ما يزيد عن مليون فلسطيني في تكريس لأطول نظام تعذيب استعماري في التاريخ.
ومقابل التعذيب الاسرائيلي الذي يتميّز بتمتعه بغطاء شريعة القوة العالمية يتنافس النظامان السوري والعراقي مع «فرانكشتاين» الذي ساهما في صنعه (والمسمّى «الدولة الإسلامية») على بلوغ ذرى مخيفة في الهمجية والتوحش والبشاعة المقصودة في الممارسات.
ولا ندري إن كانت طرق الإعدام الجديدة التي استخدمها التنظيم ضد من سماهم «جواسيس»، أو كان شريط الفيديو الذي بثه موالون للنظام لجنود سوريين يعذبون طفلا حتى الموت، احتفالاً على طريقتيهما باليوم العالمي لمساندة ضحايا التعذيب، فكلا الشريطين صدرا قبل أيام فقط، وكلاهما يمكن تأطيره في هدف الإرهاب المبرمج والمتناظر مع غارات السلاح الكيميائي والبراميل المتفجرة على التجمعات السكانية والمساجد والأسواق، وهي طرق النظام السوري المفضلة حالياً، أو حفلات الإعدام الجماعي، على طريقة «الدولة الإسلامية».
وجاء عرض شرائط تصوّر تعذيب سجناء «رومية» الإسلاميين في لبنان (وهي حفلات إهانة للاستثمار الداخلي والإقليمي في إطار تلبيس الطائفة السنّية كلها عباءة الإرهاب، على خلفية تورّط حزب الله في القتال مع قوات النظام السوري) مناسبة تضع البلد الذي كان لعقود مأوى منفيي كافة التيارات السياسية العربية والمجال الأوسع للتعبير الفكري والأدبي والإنساني في المنطقة، في قائمة البلدان الممارسة للتعذيب، إضافة إلى مزايا البلد الأخرى.
غير أن المدهش في الشرائط المصوّرة لأفعال التعذيب المرعبة هو تقصد مطلقيها أهدافاً سياسية معينة من وراء بثها، من بينها إرهاب الجماعات المناهضة لها، أو إطلاق الغرائز العنصرية والطائفية بما يؤجج الحروب ويخدم أهداف الطغم، وبذلك يصبح التطرّف في الانتهاكات والضرب على عصب الإنسانية الموجع جزءا من «العملية الإخراجية» وهو ضرب جديد من تصعيد التعذيب وتطوير مفاهيمه.
وما يجري في عالمنا يدل على أن أنظمة البشريّة «المتحضرة» لا تتأثر بجرائم الإبادة الجماعية والتعذيب والانتهاكات الفظيعة (فلطالما كانت مشاركة أو متواطئة فيها بشكل أو بآخر) ولكنّها تضطر أحياناً، تحت وطأة ضغط الإعلام عليها وعلى جمهورها، للتصرّف، فكأن الأفعال الإجرامية بحد ذاتها لا تتطلب الردّ والاستنكار إلى أن يتم تصويرها.
يشير انتشار التعذيب في البلدان العربية إلى علّة وجوديّة قائمة ليس في أنظمتنا السياسية (وهي أنظمة شهدت هزّات كبيرة في السنوات الأخيرة، لكنها لم تدفعها، للأسف، إلى مراجعات حقيقية) وحسب بل كذلك في نخبنا وأحزابنا التي تناهض تعذيب أنصارها وتناشد المؤسسات الدولية والعالم للتدخل حين يتعرضون للاضطهاد، لكنّها تغض الطرف حين يتعلّق الأمر بخصومها الايديولوجيين، ولطالما كان الإسلاميون هم الضحيّة المثلى التي لا يكترث بها أحد.
المسافة بين العرب واحترام إنسانية الإنسان بغض النظر عن اتجاهه السياسي شاسعة، وهنا يكمن غور التعذيب وأساسه الحقيقي.
القدس العربي