الناظر إلى وثيقة المبادئ الإثني عشر، التي عرضها الموفد الأممي الخاص إلى سوريا ستيفان دي ميستورا على وفدي المعارضة والنظام، في الجولة الثامنة من مباحثات جنيف؛ يخال للوهلة الأولى أنها تخصّ بلداً آمناً مطمئناً مستقراً، وسيداً حرّاً مستقلاً؛ يحتاج، مع ذلك كله، إلى حفنة إصلاحات، وتأكيدات على ثوابت كبرى، تحفظ الحاضر والمستقبل…
لكنّ الناظر إياه، إذا استذكر أنّ مبادئ دي ميستورا تتعلق ببلد فعلي اسمه سوريا، سوف يرى ما هو أبعد من ذرّ الرماد في العيون؛ إذْ ستكون مسميات مثل التضليل والسفسطة، أو حتى الهرطقة عن سابق قصد وتصميم، هي الجديرة بتوصيف تلك المذكرة. ليس ثمة مفردة واحدة حول الحاضر السوري (مئات الآلاف من القتلى والجرحى والمعتقلين والمفقودين، دمار شامل لم يُبق حجراً على حجر في ثلاثة أرباع البلد، وملايين من النازحين والمهجرين داخل سوريا وخارجها، واحتلالات شتى لحكومات وقوى وتنظيمات وميليشيات…)؛ أو الماضي (الذي صنع مأساة الحاضر، جراء نظام استبداد وفساد عائلي وراثي تأنف منه المافيا، يحكم سوريا بالحديد والنار والسلاح الكيميائي والتجييش الطائفي والتمييز والنهب… منذ 47 سنة)؛ أو المستقبل (ما إذا كانت تلك العائلة ستنزاح حقاً عن صدور السوريين، أم أنّ إعادة إنتاجها أو تدويرها شرط مسبق أعلى، إذا وضع المرء جانباً انتفاء مبدأ المحاسبة والعدالة الانتقالية…).
وما دامت المبادئ الـ12 تصف بلداً استيهامياً، أقرب إلى سوريا مشتهاة منها إلى سوريا إراقة الدماء والخراب والاحتلالات، وبالتالي فإنّ ما يُشتهى للبلد هو نقيض ما مارسه آل الأسد منذ سنة 1970؛ فقد كان من الطبيعي أن يصدر أوّل هجوم ضدّ مذكرة دي ميستورا عن رئيس وفد النظام، بشار الجعفري. «لقد تجاوز صلاحياته كوسيط بين الأطراف»، حين قدّم ورقة المبادئ دون التشاور المسبق مع وفد النظام، قال الجعفري؛ بعد أن هدد بمقاطعة الجولة المقبلة، التي ستنعقد خلال أسبوع.
أما وفد «المعارضة» السورية، ورغم أنه لا جديد حقاً في مذكرة المبادئ التي عرضها دي ميستورا وأعادت تكرار بنود قديمة طُرحت في جولات جنيف السابقة، فإنّ روحية لقاء الرياض ـ 2، لجهة الانحناء أمام المتغيرات السعودية ودفن الخطاب الذي يرطن حول المرحلة الانتقالية ومصير بشار الأسد؛ فإنّ موافقتها على سوريا مشتهاة، بنت الاستيهام والأوهام، ليست إلا تحصيل الحاصل وتثبيت الخيار صفر. فما ضرّ شاة «معارضةٍ» مثل هذه، أن تُسلخ بعد ذبح؟
طريف، إلى هذا، أن يحار دي ميستورا بين اسم «سوريا» أو «الجمهورية العربية السورية»، دون أن يقترن الخيار الأول بالصفة الجمهورية؛ وبين عدم تثبيت الصفة العلمانية للدولة المستقبلية، أو الإبقاء على صيغة «دولة غير طائفية»، وكأنّ هذا التوصيف الأخير قابل للترجمة إلى ركائز قانونية وحقوقية ملموسة. وأما الأطرف، والأشدّ مزجاً بين المأساة والمهزلة، فإنه البند 7، الذي يشير إلى «بناء مؤسسات أمنية ومخابرات تحفظ الأمن وتخضع لسيادة القانون وتعمل وفقا للدستور والقانون وتحترم حقوق الإنسان»… في إطار النظام ذاته الذي يُراد إعادة إنتاجه، والذي سلّط الأجهزة الأمنية على المجتمع، واعتقل وعذّب وصفّى مئات الآلاف من أبناء سوريا، وداس على الدستور والقانون والقضاء، ولم يترك للمواطن من حقوق إنسان سوى الركوع أمام رموز السلطة…
وهكذا، بين هرطقة لا تنتهي إلا إلى لعب مضيّع في وقت ضائع، لكنه مضرّج بدماء السوريين وعذاباتهم، وبين مشاريع حلول «سياسية» تتعهدها قوى الاحتلالات أو تنضجها على غرار طبخة الحصى، وحلول عسكرية لا تفرغ من ارتكاب مجزرة بشعة حتى تشرع في أخرى أشدّ بشاعة؛ ثمة جولات آتية، في جنيف وأستانة وسوتشي، وثمة المزيد من ألعاب السلخ!