العلاقة الثانوية التي ولدت نتيجة للحرب الأهلية السورية من شأنها أن تحدد مصير الدولة والمنطقة، أكثر من الحرب نفسها. لأنه في الوقت الذي تهتم فيه الأطراف المتقاتلة في الميدان بالحفاظ على مناطق سيطرتها، وتقوم بالبحث عن مصادر للمال والسلاح وتبذل الجهود من اجل تعزيز مكانتها من اجل العملية السياسية، فإن المعارك الثانوية تهتم في ايجاد استراتيجية بعيدة المدى. وهذه الاستراتيجيات سينقسم تأثيرها في الشرق الاوسط بشكل يشبه اتفاقية سايكس بيكو.
«المعارك الثانوية» هي تحالفات وصراعات تطورت بين القوى، مثل روسيا والولايات المتحدة، وبين قوى عظمى محلية مثل إيران والسعودية وتركيا خلال الحرب. هذا المفهوم ليس عادلا، حيث تحولت الحرب في سوريا إلى حرب بالوكالة. لأن الممول هو الذي يفرض الخطوات العسكرية. وعند الحاجة يقوم باستبدال من يرعاهم حسب انجازاتهم في الميدان.
الامر الاهم من ذلك هو التحالفات بين من يدعمون المليشيات «التابعة لهم» والتي تخلق موازين القوى السياسية بين القوى العظمى. مثلا، تقوم روسيا باستخدام الاكراد في سوريا كورقة ضد تركيا. والتعاون بين تركيا وجيش سوريا الحر ينشيء شرخا بين تركيا وإيران. هجمات الاردن ايضا على تنظيم الدولة الإسلامية في جنوب الدولة يعزز التحالف الروسي ـ الاردني والعلاقة بين الاردن وبين نظام الأسد. ووجهة جميع الدول هي اليوم التالي.
التطور الاخير الذي حدث في هذا الاسبوع يضع علاقات تركيا وإيران في موضع الاختبار. في بداية الاسبوع، في مؤتمر الامن الذي عقد في ميونيخ، أطلق وزير الخارجية التركي مبلوط شاويش اوغلو سهما حادا نحو طهران وقال إنه «على إيران الكف عن الحاق الضرر المتواصل بالاستقرار والامن الاقليميين». واقوال كهذه ليست اقوال استثنائية في طابعها فقط، بل يبدو أنها أخذت من ورقة أمريكية. ولم يتأخر الرد الإيراني. متحدث وزير الخارجية الإيراني برهم قاسمي، قال إن على تركيا فحص اقوالها تجاه إيران.
صحيح أنه توجد خلافات عميقة بين تركيا وإيران حول نظام الأسد، ولا سيما استمرار بقائه في اطار الحل السياسي. ولكن هذه الخلافات لم تمنع العلاقة التجارية الواسعة بين الدولتين التي تبلغ 10 مليارات دولار. كانت إيران هي الدولة الاولى التي نددت بمحاولة الانقلاب الفاشلة في تموز/يوليو. والرئيس حسن روحاني قام بزيارة أنقرة ثلاث مرات، ويتوقع أن يزورها من جديد في نيسان/أبريل. توجد للدولتين مصالح مشتركة في منع اقامة مقاطعة كردية في شمال سوريا، خوفا من أن تشجع الاكراد في الدولتين للانضمام إلى ذلك.
في المقابل، كل دولة من الدولتين تشتبه بما تعتبره الطموح الاستراتيجي للدولة الثانية. تركيا تؤمن أن إيران تريد تحويل العراق وسوريا إلى دول شيعية. أما إيران فهي متأكدة أن اردوغان يريد تحقيق الحلم العثماني واعادة احياء الامبراطورية.
لقد تخوفت إيران مثلا من تحرير مدينة الباب التي تبعد 30 كم عن حلب على يد القوات التركية وجيش سوريا الحر. رغم أن هذه الحرب هي ضد داعش. هذا لأن السيطرة على مدينة الباب، التي أعلن جيش سوريا الحر أمس عن تحريرها، تفتح المسار الضروري لاحتلال الرقة، عاصمة داعش في سوريا، ومن هناك تتم السيطرة على الحدود بين العراق وسوريا التي تعتبرها إيران منطقة حيوية لخلق الجسر الجغرافي بين العراق وسوريا.
لقد حدثت منافسة بين تركيا وجيش سوريا الحر وبين سوريا والمليشيات الإيرانية على احتلال مدينة الباب. اثناء اقتحام القوات التركية من الشمال تقدمت القوات السورية من الجنوب. واذا كانت التقارير حول تحريرها صحيحة، فهذا لن يكون ضربة لسوريا وإيران فقط، بل البرهان على قوة التحالف بين تركيا وروسيا، التي لم تمنع تقدم القوات التركية. ومع ذلك، يجب التعاطي مع التقارير بحذر. ففي الاسبوع الماضي بعد أن أعلن رئيس الاركان التركي انهاء معركة الباب، أعلنت مصادر في المعارضة السورية أن المدينة ما زالت تحت سيطرة داعش.
الفرضية التي تقف من وراء سياسة روسيا هي أنه عند حدوث الحل السياسي لن تشكل تركيا عقبة، وستوافق على انسحاب قواتها شريطة أن تضمن روسيا عدم وجود مقاطعة كردية مستقلة في سوريا. هذه الفرضية تعتمد على التفاهمات التي تبلورت بين روسيا وأنقرة، والتي تجد تعبيرها، ليس فقط بالتعاون العسكري بينهما، بل ايضا في الخطوات التي أدت إلى وقف اطلاق النار في حلب. هذه الخطوات التي تمت بين روسيا وتركيا فقط، وانضمت اليها إيران في المرحلة الثانية.
التنسيق الوثيق بين تركيا وروسيا لا يتجاهل إسرائيل. فبعد تبلور التفاهمات مع روسيا حول المعايير المسموحة للقصف الإسرائيلي في سوريا، وتمت اقامة خط تنسيق بين اسلحة الجو، تركيا ايضا اصبحت شريكة في هذا التنسيق، ليس فقط بسبب نشاطها الجوي في سوريا، بل ايضا على خلفية التعاون العسكري بين الدول في الآونة الاخيرة.
الصراعات السياسية بين تركيا وإيران لا تعني أنهما في الطريق إلى المواجهة والانفصال المطلق، لأنه اضافة إلى المصالح الاقتصادية الهامة التي تربط بينهما، هناك مصالح استراتيجية واقليمية. اعتماد تركيا على الغاز والنفط الإيراني وسعي إيران لتكون جزءا من الخطوات السياسية الاقليمية التي تعتبر تركيا فيها عاملا هاما. أحد هذه الامور هو ميزان الرعب بين إيران والسعودية.
منذ انضمام تركيا إلى التحالف السني الذي اقامه ملك السعودية سلمان، والذي يهدف لكبح تأثير إيران الاقليمي، تحاول طهران تعزيز علاقاتها مع الدول العربية والإسلامية كوزن مناقض لتأثير السعودية. وهي لم تكف عن تحسين علاقتها مع مصر، لا سيما بعد تراجع العلاقة بين مصر والسعودية. في تشرين الثاني/نوفمبر جاء وزير النفط المصري، طارق الملة، إلى طهران لفحص امكانية الحصول على النفط من إيران بدل السعودية.
وأوضحت إيران فيما بعد أنها تريد أن تشارك مصر في محادثات المصالحة بين المعارضة السورية وبين النظام. ولدى إيران علاقة جيدة مع الكويت وقطر والامارات وسلطنة عمان. وهي تولي علاقتها مع تركيا أهمية كوزن مناقض للعلاقة الوثيقة بين تركيا والسعودية. وترى تركيا أمام ناظريها تحالفا اقليميا تلعب فيه دورا مركزيا، خاصة بعد ابتعاد السعودية عن الازمة السورية. وقد تكون وسيطا بين السعودية وإيران.
في علاقات القوى السياسية تغيب في الوقت الحالي الولايات المتحدة. وباستثناء المشاركة الفاعلة في الحرب ضد داعش، التي يتم تنسيقها مع روسيا وتركيا، فإن ادارة ترامب لم توضح بعد موقفها من استبدال السلطة في سوريا، ومصير الأسد والمتمردين. وقد أوضح ترامب قبل بضعة اسابيع بأن الولايات المتحدة لا يجب أن تهتم باسقاط الانظمة في دول اخرى. وامتنع عن الحديث عن مساعدة أمريكا للمتمردين. هذه الامور تقوم بها روسيا فقط، ولا يبدو أن ترامب يأسف من ذلك.
ابتعاد الأمريكيين عن الساحة السورية، اضافة إلى تغير موقف تركيا من نظام الأسد، يلزمان السعودية باعادة النظر في سياستها. إذا كانت متخوفة في عهد اوباما من فقدان مكانتها لصالح إيران، فيتبين الآن أن ترامب، الذي وضع إيران على المهداف ويريد أن يفرض عقوبات جديدة عليها، يمكن أن يتسبب في تعزيز التحالف بين روسيا وإيران وتركيا على حساب السعودية.
القدس العربي