لمن يهمه الأمر.. غزة لم تعد وحدها المقياس الذي وفقه تمنح شهادات الممانعة والبطولة، بل هي سوريا بامتياز لأنه عبرها يمكن أن نستعيد أو نخسر إلى الأبد المعايير التي سقطت منا بفعل الوسائل التي اعتمدناها في التعاطي مع القضية الفلسطينية على مدى عقود، والتي تفرق دمها بين اختلاف أهدافنا ومساراتها.
لو تمكنا من رصد الخراب الذي أصابنا بفعل ذاك الاختلاف، يمكننا أن نفهم ربما لماذا سقطت فلسطين وتخمرت داخل ذاك الدرك لعقود، بالتالي تجنب تفتت العالم العربي الى أقاليم عرقية ومذهبية متناحرة كما تشي أحداث دول الصراع اليوم، بعد أن أخرجت الفوضى في سوريا الدب من عرينه.
لذا علينا أن نعي أن أمل خلاص العالم العربي وحمايته من النكبات سيضيع إلى الأبد فيما لو سقطت الثورة السورية أو استغلت من قبل اقطاعيي «رأسمالية الكوارث» أو من تشدق لعقود بمحاربتها، وأعني هنا جدار الممانعة الذي تراصفت خلفه مقدرات بشرية عدة على رأسها حزب الله الذي سقط في قعر التاريخ عندما وقف ضد الشعارات التي تعملق بفعلها فنزع إكليل القيصر عن رأسه وحررنا من أكذوبته.
ولعل حالة التعري التي تحيق بوجه أمتنا ترتبط أولا وأخيرا بمنظومة العقل العربي الذي أسكن في مستعمرة الذل لعقود، لم يعرف خلالها متنفسا إلا عبر طقوس نصرة القضية الفلسطينية الأم التي كانت شعاراتها طوق الحرية الوحيد لحناجر شوارعنا العربية بمباركة السفاح الحاكم الذي تأله بفعلها وعبر استغلالها تكرست طلاسمه لسانا أوحد لأمة يفترض أنها صاحبة رسالة خالدة. بسبب طوق ذاك الجلاد ينغمس البعض منا اليوم في سوريا بهدم المدن فوق رؤوس أطفالها، كقربان حتى لا يسقط تصدع العروش جدران معتقلنا. وسواء كانت هذه الانتهاكات لأسباب مذهبية أو عرقية أو لاأخلاقية يبقى هذا القصور يخص بيئتنا العربية على تنوعها باعتبار أن الجلاد والضحية قد نهلا من منهل واحد. هل هذا مؤشر على أزمة في «العقل العربي» الذي لم يتمكن من التفكير خارج حاضنته، جلاده؟
أم أننا أمام مجموعة من البشر نفعية ترى الكون من خلال مصالحها؟ من اللافت أن الفئة المتماهية مع الجلاد فيها من العامة والنخبة على السواء، إذن ما الذي يجعل تراصف فئات من كل المشارب تحت أقدام سفاح آثم أمرا قابلا للحياة؟
قال نجيب محفوظ يوما «إن الداء الحقيقي هو الخوف من الحياة لا الموت»، لعل هذه الصورة تنطبق على ملايين المواطنين في دول المزارع وحكم العسكر الذين يخشون الحياة خارج تلك الأسوار، ذاك الخوف لم يسعفه على الإطلاق شتات الشعب الفلسطيني، الذي كان ومازال كطوفان لم ينحسر بعد، لرصد خرابه بالكامل، وربما لن يتيسر لنا ذلك، بعد أن تحول الشعب السوري بدوره إلى صائد فتات، بفعل المساعدات التي حولته إلى رقم في سجل، بالكاد يساوي رغيف خبز وخيمة، حيث لا عنوان يحمي ما تبقى من كرامته تلك، التي أهدرها عوز شتات ممنهج. وسط هذه المحركات تترنح الكرامة العربية، وهي التي تصدعت منذ عقود عندما أُسكنت تطلعات الشعب الفلسطيني مأوى «لقمة العيش»، وهو جل ما أراده لنا العدو كشعوب أن نصبح كالديدان التي تحفر مكانها بأعين حدها التراب بحثا عما يسد رمقها.
ولعل الأسوأ ما في هذه التراجيديا المزمنة هو الدور الذي مارسه ومازال المجتمع الدولي الذي قام بتأطير النكبة الفلسطينية عبر مؤسسات أنشأت لكي تمد يد العون لمئات الآلاف من الفلسطينيين، غير أن تشردهم أصبح عبر السنين هدفا لبقائها، ومعاناتهم مطلبا لتمويلها، وها هي تنعش أعمالها من جديد عبر شتات آخر، حيث يفترش مئات الآلاف من السوريين العراء بانتظار غد لا ملامح له.
أمام هذا التطابق في الشتات بين النسختين السورية والفلسطينية وبفضل نيران للبعض صديقة يمكن القول إننا أصبحنا قابلين أكثر مما مضى للكسر، وهو أمر يخدم بالدرجة الأولى أغراض مقاولي رأسمالية الكوارث التي قالت عنها نعومي كلاين في كتابها «عقيدة الصدمة» إنها قائمة على «بث الرعب كي تتحقق الأهداف»، أي أهداف بعد نكبة فلسطين؟ وعلام هذا الرعب المدسوس بيننا؟ من الواضح لغاية اليوم أن نكبة فلسطين هي فصل من الحكاية وليست كل الرواية. وإن كانت فلسطين بمثابة حرب البروفة بالنسبة للصهاينة وخدام مشروعها، فإن سوريا اليوم هي «حصان طروادة»، وما التكالب الروسي الأمريكي وزبانيتهما سوى رأس جبل جليد يخفي بين طياته بذور شقاق قد يؤسس لمئة عام من الفتن، كيف لا والحرب المذهبية أصبحت أمرا واقعا سواء تأرشف موعد انطلاقها أم لم يتأرشف، ولعل أخطر ما فيها أنها عابرة للجنسيات وهو ما يعني أن عين العاصفة التي تتكون فوق رؤوسنا ستكون أبشع وأفظع مما نخشى .
قد يتعسر علينا معرفة فرص نجاتنا نحن شعوب القهر والخوف والتبعية من «الفوضى» التي تعصف بنا والتي بشر بها بوش الصغير- رغم أن لا شيء يضمن بقاء تجار الرياح بمنأى عن الكوارث – لكن لا بد من الإقرار بأن تفاقم الأوضاع في عالمنا العربي وخروجها عن السيطرة تعود في أحد أوجهها إلى امتهان أجدادنا وآبائنا صنعة «الصمت» حيال انتهاكات تحولت بفعل «حرفتهم « إلى جرائم يندى لها الجبين، ربما لهذا ندفع اليوم ثمنا غاليا لأن هذه الكوارث من سلالة ذاك الصمت الآثم، على الأقل هذا ما تؤكده نظرية تأثير الفراشة التي تقول إن «رفة جناح فراشة في أفريقيا يمكن أن يكون لها دور في تكوين إعصار في ميامي»، بمعنى آخر، كل شيء مترابط ، حدوث أمر صغير جدا قد يؤدي إلى تغييرات هائلة في أكبر الأنظمة، قد لا تظهر مباشرة، ربما تأخذ سنوات أو عقود قبل أن تتشكل كحدث متكامل.
بمعزل عن مدى دقة هذه المقاربة لكن وجودها «كنظرية» قد يعني أن فكرة حتمية تبعيتنا لقوى كبرى بحكم التعقيدات الجيوسياسية لمنطقتنا «كنظرية» يجب أن ترمى في مزبلة التاريخ والبحث عمن يخلصنا من لعنة ذاك «الصمت» الملوث باستغاثات الثكالى الذي جعل منا نحن أولاد شهود الزور حفاري قبور في مدفن للأحلام.
ألكسي دو تكفيل يقول «كما في الثورة كما في الرواية الخاتمة هي الفصل الأصعب الذي يتوجب اكتشافه»، وبما أن الملحمة لم تضع خواتمها بعد، على كل فاعل بيننا أن يكتشف أو يبلور طريقة تخرجنا من هذا النفق المظلم، فإن كانت فلسطين هي الرئة فسوريا هي القلب النابض، والجسد العربي من دونهما لا بقاء له، لذا فلنبدأ بالفعل الصغير وليعلم احدكم ان رفع كلمة «لا» واحدة ضد أي انتهاك لكرامة الإنسان مهما كان بسيطا، قد يشكل منطلقا لخلاص لاحق، كيف لا وهو بمثابة «رفرفة جناح» قد تتحول إلى إعصار يمسح آثار الاضطهاد وأصحابه. وفق «تأثير الفراشة» هذه حقيقة وإن كان اكتشاف الحقيقة هو نصف الطريق، فهل نملك إمكانية التصرف وفقها؟
القدس العربي – نهى المصري