أطلقت تصريحات رئيس الاستخبارات السعودية الأسبق الأمير تركي الفيصل الأخيرة مجموعة من الرسائل السياسية اللافتة، وخصوصاً منها ما يتعلّق بإيران وحركة المقاومة الإسلامية “حماس”.
صدرت أقوال الفيصل المشار إليها خلال مشاركته في مؤتمر للمعارضة الإيرانية في باريس يوم السبت الماضي، وهذه المناسبة، بحد ذاتها، تعطي معنى خاصّاً لهذه التصريحات ويضيف قوّة إلى رسائلها.
الانطباع الأول الذي يمكن الخروج به من مشاركة الفيصل في المؤتمر هو أن المملكة قرّرت اتباع نهج سياسيّ جديد نجد أول بذوره في قرارها بالتدخّل العسكري في اليمن، وتعتبر التصريحات استكمالاً وتوسيعاً لهذا النهج.
أول الرسائل المستفادة هو أن الرياض قرّرت التعامل مع إيران بالأساليب الإيرانية نفسها التي نجحت في خلق أذرع طويلة لنفوذها عبر العالم العربي من خلال الأقلّيات والميليشيات والأحزاب الشيعية أو المتشيّعة في العالم العربي، وعبر دعم الاتجاهات السياسية الداخلية التي تعارض أنظمة الخليج، مروراً بدعم أحزاب إسلاميّة سنّية مقاومة كحركتي “حماس” و”الجهاد”، أو بدعم نظامي العراق وسوريا، وبخلق علاقات لجوء وتبادل خدمات “براغماتية” مع تنظيمات كـ”القاعدة”.
بشبكة النفوذ الكبيرة والمعقّدة هذه استطاعت طهران عمليّاً خلق ما يشبه الإمبراطورية الفارسية الجديدة التي شطرت المنطقة العربيّة وخلقت تهديداً مباشراً أقرب للحصار للمملكة العربية السعودية من خلال اليمن والبحرين والعراق (وصولاً لسوريا ولبنان).
مع اندلاع الثورات العربية عام 2011 ارتفعت أمام الهيمنة الإيرانية تحدّيات مهمّة فتخلخل ارتكازها على المسائل الثلاث.
لقد ابتعدت عن الصراع مع إسرائيل (بعد هدنة 2006 وتوغّل “حزب الله” في الحرب السورية وصولاً إلى حلب) وأوغلت في النزاعين العراقي والسوريّ على أسس طائفية (الإسلام)، وصولاً إلى اتفاقها النووي مع الولايات المتحدة الأمريكية (الذي عنى، عملياً، انطواء مرحلة مقاومة “الشيطان الأكبر” الأمريكي وانفتاح باب التطبيع معه).
هذا التخلخل في مشروع إيران للسيطرة الفكرية والعسكرية على المنطقة العربيّة لا يعني هزيمتها وخصوصاً أمام السعودية التي، بعد قرارها مواجهة إيران بشكل مباشر في اليمن (وبشكل غير مباشر في سوريا وغيرها)، لم تقدم استراتيجية متكاملة تثبت فيها قدرتها على قيادة المنطقة (أو المشاركة في قيادتها)، فعلاقتها مع تركيّا لم تفض إلى تعاون استراتيجي يوحّد المشروع السنّي بمواجهة المشروع الشيعي الإيراني، وعلاقتها بالتيار الإسلامي المعتدل العريض الذي تمثله جماعة “الإخوان المسلمين”، وجناحها الفلسطيني “حماس”، علاقة متوتّرة (كما كشفت تصريحات الفيصل)، كما أن مكانها ضمن التحالفات العالمية اهتزّ بعد مواقف الإدارة الأمريكية الناقدة سياسياً للرياض.
قد يساعد السعودية أن تنسّق مع المعارضة الإيرانية بهدف إذاقة طهران طعم ما تذيقه لخصومها الإقليميين، فهي بلد يضم عدداً من القوميّات والأديان والمذاهب، وهناك نزاعات قوية مع الأحوازيين والأكراد والأذريين والبلوش، كما أن هناك نزاعات سياسية دمويّة مع تنظيم “مجاهدي خلق”، وخلافات بين المحافظين والليبراليين، واتجاهات شيعيّة معارضة لخط “الوليّ الفقيه”، وكلّها خيوط يمكن للسعودية ولغيرها أن تستفيد منها.
غير أن الصراع مع إيران ليس عسكريّا فحسب، بل يحتاج مشروعا سياسيّا متكاملا يعضد هذا الصراع ويساهم في استعادة الراية الإسلامية واحتضان القضية الفلسطينية بدل اتهام المقاومين بإشاعة الفوضى، ويواجه الغطرسة الأمريكية المتمادية.
القدس العربي