هل من ناطق بالعربية ينتمي إلى جيل هزيمة 1967 ويجهل قصيدة مظفّر النوّاب المدوّية «القدس عروس عروبتكم»؟ شكّلت تلك القصيدة بلا شكّ أعنف تعبير أدبي عن السخط الذي ولّدته الهزيمة إزاء الأنظمة العربية، جميع الأنظمة العربية بلا استثناء: «أقسمت بتاريخ الجوع ويوم السغبة / لن يبقى عربي واحد إن بقيت حالتنا هذي الحالة / بين حكومات الكسبة / القدس عروس عروبتكم / فلماذا أدخلتم كل زناة الليل إلى حجرتها؟؟ / ووقفتم تستمعون وراء الباب لصرخات بكارتها.»..
عندما يقف الإنسان العقلاني عاجزاً أمام كارثة تصيب وجدانه في العمق، لا يبقى أمامه سوى سبيلين للتعبير عن مشاعره: الشارع، بمعنى النزول إلى الساحات والطرقات لصراخ سخطه بملء حنجرته، والشعر، بكافة أشكاله قافيةً ونثراً وغناءً ورسماً وهلمّ جرّا. وقد أثارت هزيمة 1967 ردود فعل عارمة سلكت السبيلين، فامتلأت شوارع المدن العربية بالمتظاهرين ونتجت عن الهزيمة أعمالٌ هي من أقوى وأعظم نتاجات الأدب والفن العربيين المعاصرين.
وكذلك في الماضي فإن مأساة الحرب الأهلية الإسبانية، التي تصارع فيها الجمهوريون والفاشيون ـ المَلَكيون في ثلاثينات القرن المنصرم وفاز فيها المعسكر الرجعي، قد نتجت عنها بعض قمم الأدب والفن، بما فيها إحدى كبرى روائع التصوير العالمي التي جاءت تعبيراً عن كبرى مآسي تلك الحرب. المأساة المقصودة هي التي نجمت عن قصف طيران حليفتي النظام المَلَكي-الفاشي، ألمانيا النازية وإيطاليا الفاشية، لمدينة غرنيكا في بلاد الباسك، شمالي الدولة الإسبانية، في نيسان/ أبريل من عام 1937، وذلك بدون أي تمييز بين أهداف عسكرية ومدنية. أما الرائعة الفنّية فبالطبع لوحة بابلو بيكاسو الشهيرة المعروفة باسم المدينة التي رُسمت تخليداً لمأساتها.
وقد تكاثرت في الأشهر الأخيرة تشبيهات بين حلب وغرنيكا، والتشبيه يفرض نفسه حقاً وبقوة. فمثلما حطّم طيران المحور النازي-الفاشي مدينة بلاد الباسك فوق رؤوس سكانها، بينما لم تحرك سائر القوى العالمية ساكناً ضد تدخّل المحور في الحرب الأهلية الإسبانية، بل تركت طيرانه يغتصب المدينة وهي تستمع «وراء الباب لصرخات بكارتها»، ها أن الطيران الروسي يحطّم شرق حلب فوق رؤوس سكانها، وسائر القوى العالمية والإقليمية لا تحرّك ساكناً لمنع الجريمة الفظيعة، اللّهُمّ إلّا إذا أخذنا على محمل الجدّ دموع التماسيح التي ذرفها جون كيري وهو ينتحب على إخلال دولة صديقه سيرغي لافروف بوعودها السلميّة العسليّة، أو مسرحيات رفع العتب بالاتكال على حق النقض الروسي في مجلس الأمن الدولي.
كانت غرنيكا أول حالة في التاريخ جرى فيها تحطيم مدينة فوق رؤوس أهلها بواسطة القصف الجوّي. ويرى فيها المؤرخون السابقة التي أنذرت بما سوف تشهده الحرب العالمية الثانية من تحطيم لمدن عدّة بواسطة هذا النوع من القصف، لا سيما في سنة الحرب الأخيرة التي رأت تحطيم مدينتي درسدن الألمانية وطوكيو اليابانية، ناهيكم بإلقاء القنبلتين الذرّيتين على هيروشيما وناغازاكي اليابانيتين هما أيضاً. وفي زمننا الراهن، فالمثال الأبرز عن تلك الخطة التدميرية العالق في ذهننا، إنما هو ما قام به الطيران الصهيوني في لبنان قبل عشر سنوات. وقد عُرفت الخطة آنذاك باسم «استراتيجية الضاحية» (أو «مذهب الضاحية»)، وهو الاسم الذي تم إطلاقه في دولة إسرائيل على نظرية صاغها رئيس هيئة أركان الشمال في الجيش الصهيوني، تقول بتحطيم المناطق المدينية التي يسيطر عليها مقاتلون «غير نظاميين» بحيث تصبح مناطق مسطّحة لا مجال للاحتماء فيها.
والحقيقة أن نَسب تلك النظرية للجنرال الإسرائيلي إنما هو انتحالٌ لحقوق التأليف التي تعود بالتأكيد لفلاديمير بوتين، وهو الذي أشرف على تطبيق الاستراتيجية على مدينة غروزني، عاصمة الشيشان، عندما أصبح رئيس روسيا الفعلي في أواخر سنة 1999 ومن ثم رئيسها الرسمي الانتقالي بعد استقالة سلفه، بوريس يلتسين، وحتى انتخابه رئيساً في أيار/ مايو 2000. وقد فاق تطبيق تلك الاستراتيجية في غروزني ما شهدته مناطق لبنان من تحطيم سنة 2006 مثلما فاق تطبيقها في سوريا، ولا سيما في حلب الآن، ما شهده هذا القرن حتى يومنا.
وبعد، فهل ننتظر استكمال الجريمة في حلب لكي تتحرك ضمائرنا، ونحن نعلم عِلم اليقين أن ما يسمّى «المجتمع الدولي» لن يحول دون استكمال الجريمة في حلب، بل سوف يستمر بالاستماع «وراء الباب لصرخات بكارتها»، أم هل ننزل الشوارع في كل مكان، كما بدأ بعض الشرفاء يدعون له ويقومون به في مدنٍ شتى، تعبيراً عن سخطنا وأملاً بأن يؤدي تحرّكنا إلى تحريك ضمائر المُشْرفين على الأنظمة الدولية الثلاثة المعنية، العربي والإقليمي والعالمي، هذا إن كانت لديهم ضمائر؟ فنقول لهم «حلب عروس إنسانيتكم»، تلك الإنسانية التي تدّعون النطق بأسمى قِيَمها ليلاً نهاراً مثبتين مرة بعد أخرى أنكم لمن المنافقين الكاذبين، تزعمون أنكم حريصون على كل نفس بريئة ولا تبالون لقتل الناس جميعاً. لقد نتجت حتى الآن بضع تحفٍ أدبية وفنّية تعبيراً عن المآسي في سوريا، ولا شك في أن مأساة حلب العظمى سوف تولّد المزيد مما سوف يبقى في نظر الأجيال القادمة وصمات عار فنّية انضافت إلى سابقاتها على جبين الإنسانية.