اعتبرت دمشق زيارة أربعة برلمانيين فرنسيين لها، ولقاء ثلاثة منهم الأربعاء الماضي مع الرئيس السوري بشار الأسد، غزلاً باريسياً بالنظام، ورددت السلطات هناك نغماً سابقاً قديماً كان سائداً في سرديّات دبلوماسيي ورجال إعلام نظام الأسد الأب حول مركزية القرار السوري في شؤون العالم العربي والعالم.
في الزيارة دلالات سياسية على أي حال، وإذا كان الزوار الفرنسيون يحملون الصفات التي ذكرها الطبعة الرسمية السورية من الخبر، فالزيارة تعكس بالتأكيد رغبة ضمن أوساط فرنسية عديدة في إعادة جدولة الأولويات السياسية، وهو أمر خاضع للشؤون السياسية الفرنسية أكثر مما هو غرام فرنسي مفاجئ بالرئيس السوري.
ضمّ الوفد الفرنسي الزائر لدمشق، بحسب الخبر الذي ورد في صفحة “رئاسة الجمهورية العربية السورية” على “فيسبوك”، عضو الجمعية الوطنية الفرنسية وعمدة مدينة ميزون لافيت جاك ميار (يمين)، وفرانسوا زوكيتو (وسط)، عضو مجلس الشيوخ الفرنسي وعمدة مدينة لافال، وباتريك باركاند، المفتش العام في وزارة الدفاع الفرنسية، وستيفان رافيون المستشار الأمني في السفارة الفرنسية في بيروت، لكن هذا الخبر حسب طبعته الفرنسية، لا يضم الإسمين الأخيرين، بل يضم جيرار بابت (الذي لم يلتق الأسد)، وجان بيار فيال، عضو مجلس الشيوخ الفرنسي، والأربعة ينتمون، بحسب وكالات الأنباء، لجمعيات صداقة برلمانية فرنسية سورية، وهو أمر يفسّر سبب زيارتهم ولكنّه لا يخفّف من دلالاتها.
وبالتالي فإمّا أن “المفتش في وزارة الدفاع الفرنسية” و”المستشار الأمني في السفارة الفرنسية” في بيروت قد حضرا الاجتماع ضد إرادة الدولة الفرنسية، أو أن القائمين على الأمور الإعلامية في القصر الجمهوري السوري قد أضافوا إسميهما ومنصبيهما لـ”نفخ” الزيارة وتحويلها من “مبادرة” أربعة نوّاب لتصبح تمثيلاً لسلطات التشريع وجهازي الأمن والجيش الفرنسيين، فيتضخّم الحدث من كونه مماحكات سياسية فرنسية داخلية إلى تراجع فرنسي كبير أمام “صمود الأسد”، كما عبّر بعض الموالين على وسائل التواصل الاجتماعي.
واستمراراً مع الرواية الرسميّة السورية للواقعة فإن الوفد طلب تعاوناً أمنياً واستخباراتياً في مواجهة الجماعات الأصولية والجهادية وتحركات أفرادها، و”تحديداً المغاربة من أصول فرنسية”، والذي جوبه بتشدّد سوري يربط هذا التعاون بالتنسيق السياسي وإعادة فتح السفارة الفرنسية بدمشق، أي أن النظام الذي واجه هزيمتين عسكريتين (وبالتالي أمنيتين) شنيعتين في الجنوب والشمال في الأسبوع الماضي، يريد أن يساعد فرنسا “أمنياً” و”عسكرياً”، ولا يقبل ثمناً مقابل ذلك أقل من إعادة الاعتراف بشرعية الأسد.
ردّ باريس الرسمي والحزبيّ على هذه “الشروط” جاء، على لسان رئيس الجمهورية فرانسوا أولاند الذي ندد بما سمّاه “المبادرة” لأنها “اللقاء الأول بين برلمانيين فرنسيين بدون تفويض مع دكتاتور هو السبب في إحدى أسوأ الحروب الأهلية في السنوات الأخيرة والتي أوقعت مئتي ألف قتيل”، فيما قال رئيس الوزراء الفرنسي مانويل فالس “إن أولئك البرلمانيين ذهبوا للقاء شخص قتل مئات الآلاف من البشر. إن ما فعلوه هو عبارة عن خطأ أخلاقي”، فيما قال الأمين العام للحزب الاشتراكي جان كريستوف كامباديليس إن حزبه سيفرض عقوبات على النائب من حزبه الذي شارك في الزيارة وهو رئيس مجموعة الصداقة الفرنسية السورية جيرار بابت.
من المؤكد أن زيارة أربعة نوّاب فرنسيين لدمشق هي اختراق مهم لصالح النظام السوري، فهؤلاء منتخبون من الشعب الفرنسي ويمثلون عدة اتجاهات سياسية، ورغم أنها “مبادرة فردية” على حد شرح السلطات الفرنسية، فهي تدلّ على ميل متزايد لدى الفرنسيين (والأوروبيين عموماً) لقبول فكرة الاستعانة بالطغاة العرب لكسر “بعبع” الجهادية الإسلامية المسلحة، وهو منطق سياسي يقوده اليمين المتطرّف والاتجاهات العنصرية الأوروبية، التي تكره العرب والمسلمين عموماً، وتعتاش، كما اتجاهات التطرّف العربية والإسلامية، على كره الآخرين.
السؤال الذي يخطر في البال توجيهه إلى ممثّلي الشعب الفرنسي الأجلاء من “أصدقاء” سوريا: لو زار أربعة نوّاب من البرلمان السوريّ فرنسا معلنين معارضتهم لسياسة الأسد فهل كانت صداقتكم للأسد ستنقذهم من الموت؟
القدس العربي