من لا يقرأ التاريخ لا يفهم الحاضر، ومن لا يفهم الحاضر لا مستقبل له. واذا كان من المستحيل تسجيل دروس التاريخ وعبره في مقال او حتى في كتاب واحد، وحاجة ذلك إلى موسوعة كاملة ومؤلفين كثيرين، فان الاختصار المبالغ به، جدا، هو الحل المتوفر الوحيد.
هذه الحقيقة تقف وراء اضطراري إلى الاختصار، حد الاختزال، وانا احاول وضع قناعتي وتفسيري لما يمر به العالم العربي في سياق الاحداث العالمية، وعلى مستوى الكون باجمعه، في عصرنا هذا.
ما يشهده العالم العربي، والمسلم السُّني تحديدا، مرعب. مذابح ومجازر وانهار دماء ودموع، وقوافل تشرد في مواسم لا تنتهي من الفرار والهجرة، من الشرق إلى الغرب، ومن الجنوب إلى الشمال. فرار وهجرة من بلاد واوطان طاردة لاهلها، وهجرة ولجوء إلى بلاد واوطان اجنبية جاذبة للضحايا، ولمن يندسون في صفوفهم، ايضا، من قتلة ومجرمين، هم بدورهم كذلك ضحايا لمجرمين، يقتلون بالكلمة، خطية وشفهية، ويثيرون ويضللون ويحرضون، ويُجهِّلون في مدارسهم ومعاهدهم وجامعاتهم، واكثر من ذلك، في خطبهم وندواتهم، بدل ان يُدرِّسوا. فيتخرج هؤلاء بادمغة مغسولة مؤهلة للانحراف وعشق القتل للقريب وللبعيد على حد سواء، وان كان «الاقربون»، في عقولهم الموبوءَة، أَوْلى…بالقتل.
يصل العرب المسلمون السُّنَة إلى هذا الدرك والحال المزري، في مرحلة يفور فيها العالم باحداث جسام. حتى لكأننا على ابواب عالم من نوع وطراز جديد، لم تعبر البشرية في تاريخها الطويل بمثيل له.
«عالم القطب الواحد» الامريكي، جاء في «عصر السرعة»، فلم يعمِّر الا اقل من عقدين من الزمن. وها هو ينزاح ليخلي مكانه إلى «عالم الاقطاب الاربعة» او يزيد، وليس العرب واحدا من هؤلاء.
في عصور سابقة، كانت تحسب اعمار القوى المهيمنة بالقرون، وهي التي تضع للعالم قواعد سلوك ملزمة، في حالات السلم وحالات القتال، في قوانين التجارة والزراعة والصناعة والهجرة وغيرها.
نظرة إلى ما مرت به البشرية منذ ما قبل الميلاد بعدة قرون، تكشف لنا ان عالم القطب الواحد الاغريقي، واساطيره الجميلة الباحثة عن التفسير لما في الطبيعة، امتد قرونا من الزمن، ومثله كذلك عالم القطب الواحد الروماني الوثني الذي «اهتدى» إلى المسيحية، (بعد ثلاثة قرون من نشأتها) وفرضها. ثم اطاح به وورثه عالم القطب الواحد العربي، الذي «اهتدى» إلى الاسلام، فازاح من طريقه، (بعد ثلاثة عقود، فقط، من نشأته)، كل ما قبله، وفرض نفسه قطبا مهيمنا على العالم، وفرض لغته وقواعد السلوك التي اتى بها على الصعيد العالمي.
ثم تلا ذلك عالم القطبين المسيحيين: الكاثوليكي والأُرثوذكسي، إلى ان انطلقت حركة التمرد على الكنيسة الكاثوليكية التي كانت غارقة في التخلف والتدجيل، ونشأت الكنيسة البروتستانتية، وخلال قرن واحد تمكنت من المزاحمة لاخذ دورها، وكان لها ما ارادت، وصولا إلى عالم القطبين الجديدين: البروتستانتي والأُرثوذُكسي الذي عايشناه حتى بداية العقد الاخير من القرن الماضي، وانتهى باندحار وسقوط «الاتحاد السوفياتي» وحلف وارسو. تخلل مرحلة عالم القطبين: الامريكي/البروتستانتي والسوفياتي/الارثوذكسي، مساع، مثمرة احيانا، لخلق حالة من «عالم ثلاثي الاقطاب»، عندما تمكن المستبعدون: العرب المسلمون السُّنة، ومثَّلهم الزعيم المصري العربي عبد الناصر؛ والهند، التي مثلها جواهر لال نهرو؛ والصين، التي مثَّلها شو إن لاي؛ وبقية دول آسيا، وابرزهم احمد سوكارنو؛ وكذلك بعض دول اوروبا الوسطى التي نشدت الحياد، بقيادة الزعيم جوزيف بروز تيتو،؛ اضافة لزعماء وقادة ورؤساء من افريقيا ومن امريكا اللاتينية. وشكّل هؤلاء مجتمعين «قطب» الحياد الايجابي، وتحت شعار»عدم الانحياز» لأي من القطبين المسيطرين، وفارضَي «النظام العالمي» المهيمن، متمثلا بهيئة الامم المتحدة، ومجلس أمنها، الذي فرض «الخمسة الكبار» اصحاب حق الفيتو/التعطيل، لكل ما يمكن أن تتوافق عليه أي اغلبية كانت، وما تمثله تلك الهيئة من «شرعية دولية».
كل هذا اصبح تاريخا مدعوا بلطف، او مرغما بعنف، على اخلاء الطريق، على ما يبدو، لعالم جديد، بتجربة جديدة لا سابق لها في تاريخ البشرية المعروف، هو عالم الاقطاب الاربعة: (1) البروتستانتية، ( الدول/الولايات المتحدة الامريكية، ومعها بعض الاقليات الاوروبية الغربية وغالبية الجزر البريطانية، وامتدادات في افريقيا)؛ (2) الكاثوليكية/اللاتينية، (في معظم اوروبا، فرنسا وايطاليا واسبانيا والبرتغال وغالبية اوروبا الغربية وكل امريكا اللاتينية والعديد من دول افريقيا وآسيا، واولها الفلبين، طبعا، وغيرها)؛ (3)الارثوذكسية، (ورأساها السياسي/العقائدي في موسكو، والعقائدي في اليونان، واقليات واكثريات في شرق اوروبا، وامتدادات في افريقيا اهمها اثيوبيا)؛ (4) الماردان الآسيويان الصين والهند ودول الجوار في شرق آسيا، بدياناتهم الكونفوشية والهندوسية والبوذية وطوائفها وغيرها من الديانات والعقائد الطبيعية، وهي تعادل في تعداد سكانها نصف عدد البشر في العالم تقريبا.
هكذا اذن، نقف هذه الايام امام تطورين جديدين، ايجابي وسلبي:
ـ اما الايجابي فهو استيقاظ الماردين، الصيني والهندي، اللذين استنكفا على مدى تاريخيهما عن التفكير والعمل للهيمنة على العالم وفرض قواعد سلوك في كافة الحالات له، مكتفيين كل بما عنده من ملايين من البشر، ومن «شبه قارة» وما فيها من موارد وخيرات، ليبدأ، كل منهما على انفراد، للبحث عن مساحة ودور فاعل في العالم باسره.
ـ واما السلبي فهو الغياب العربي السُّني، بفعل تخلف قادته على مدى قرون، وبفعل الديكتاتورية والتسلط واستبداد الحكام، وبفعل تلقين تفضيل السماء عن الارض، واعطاء مفاتيح السماء للاكثر تخلفا، والاكثر تطرفا، يحمون به انفسهم من أي نقد. يعمِّمون العمى، وينشرون الجهل، ويفرضون في مدارسهم التجهيل، في عصر لا حاضرفيه ولا مستقبل لجاهل أُميٍ بعلوم العصر وقوانينه وقواعد السلوك فيه.
اذا كان هذا عن «الغياب» العربي السُّني، فإن لـ»التغييب» ايضا دور، لكن الذنب الاساسي هو ذنب الغائب لا المُغيِّب. وليس المُغيَّب هو «الاسلام». المُغيَّب هو «العرب المسلمون السُّنة»، وعددهم في العالم نحو 350 مليون شخص/ من اصل نحو مليار ونصف مسلم في العالم، 85٪ منهم مسلمون سُنَّة. اندونيسيا وماليزيا والباكستان والسنغال ونيجيريا وغيرها ليست مستبعدة، وان كان بعضها مبتعدا. تركيا وكزاخستان وكل الـ»ستانات» الأُخرى مستبعدة من اوروبا فقط، وليس من الآخرين الفاعلين المؤثرين في هذا العالم، وتلعب دورا في الدفاع عن دورها ومكانتها ومصالحها ، جديراً بالتقدير، حفاظا على مصلحتها ومستقبل شعبها وتابعيه.
اما ايران المسلمة الشيعية، وامتداداتها الشيعية في العالم العربي وخارجه، فهي اكثر من حاضرة: انها «مخلب قط»، مستفيدة لذاتها، ومفيدة لغيرها في «الحرب الكونية» على العرب السُنَّة. وبسبب هذه القناعة الراسخة، قلت اثناء كل ما مر منذ ثورة الخميني وحتى الآن، وربما مع كثيرين آخرين: لن يضرب الغرب ايران ولا الشرق ايضا، انها مخلب قط، يأكل مما يخرجه من النار، ويُطعم كل الرافضين والمتخوفين من دور للعرب المسلمين السُّنة، في حاضر العالم ومستقبله.
لا اسلام بلا عرب، ولا عرب بلا اسلام، ولا عرب ولا اسلام بدون مصر، ورحم الله المفكر اللبناني الراحل، مُنَح الصُّلح، الذي لم يمل من تكرار تعبير «مصر… وبقية القبائل العربية» حيث كانت مصر، في عقله ووجدانه، هي «الحاضرة» العربية الوحيدة، القادرة على رفع الراية العربية/الاسلامية/السُّنِيَّة، واعلائها، ولم شمل «الأُمة» تحتها.
انتهى كتاب الزعيم العربي الخالد جمال عبد الناصر، الذي صدر عام 1954، وهو كتاب «فلسفة الثورة»، بفقرة واضحة تتحدث عن «دور» يبحث عن «بطل». ويؤلمني، مع ملايين كثيرة من العرب ، بالتأكيد، ان نرى اليوم، وبعد ثلاث وستين سنة، «ابطالاً»(!) عرباً يبحثون عن «دور»، ولا يرون «الدَّوْر»، او يخشونه.
القدس العربي