في رسم لافت لخص رسام الكاريكاتير في صحيفة «أوبزيرفر» كريس ريدل الأحداث الأخيرة في حلب والتعاطف الذي طبع الشجب العالمي لعدم تحرك العالم لإنقاذ الشعب السوري خاصة أطفال حلب.
وفي ضوء الصورة التي اعتبرها الكثيرون «أيقونية» للطفل عمران دقنيش والتقطت له صورة على كرسي برتقالي يحدق مذهولاً لا يدري ما يجري حوله وقد كسا وجهه الغبار والدم بعد انتشاله من أنقاض بيته.
وترك عمران وحيداً في سيارة الإسعاف حيث ذهب المسعفون للبحث عن آخرين كان منهم شقيقه علي الذي فارق الحياة بعد أيام. وأصبحت صورة عمران مثالاً لمعاناة مدينة حلب وأطفالها والحرب السورية الطويلة.
الدب الروسي
شجب رسام الكاريكاتير ريدل روسيا واتهمها بالوقوف وراء التخطيط لتدمير حلب. وجاءت رموز الصورة لافتة فهنا الدب الروسي/فلاديمير بوتين بجثته الهائلة يجلس على يافطة تدل المسافر على حلب وقد أدار ظهره للدمار المنبعث منها على شكل دخان أبيض وسماء صفراء اللون دليلاً على السلاح الكيماوي المستخدم في هذه الحرب الدموية.
ويحمل الدب البني اللون في يده ريموت كونترول يضغط عليه وعلى وجهه علامات من الرضا. وحمل على ذراعه الأيمن قميصاً أبيض وأصفر مكتوباً عليه «الأسد».
وفي الزاوية السفلية اليسرى من الصورة، عمران دقنيش وقد ساد الحزن وجهه المدمى. أما على الزاوية اليمنى فالقاتل باللون الأزرق، وهو يحمل ساطوراً يكدس الجثث أمامه.
واللون الأزرق يشي بأن القاتل طبيب في غرفة عمليات يقتل أهل حلب بدلاً من أن يمنحهم فرصة للشفاء.
ففي حلب قصف الروس وحلفاؤهم من النظام العيادات والمستشفيات. ورسمت «ميل أون صنداي» عمران في لوحة تشكيلية وهو يحمل القلادة الذهبية وتحتها عبارة حصل عليها «للنجاة» في توقيع على أوليمباد ريو دي جانيرو الحالي. وألقت مأساة عمر ضوءًا على معاناة أكثر 75.000 طفل يكافحون للنجاة في المدينة السورية.
وقال ديفيد نوط، الجراح الويلزي المعروف والذي قضى وقتاً في المدينة يعالج جرحى الغارات الجوية إن صورة عمران يجب أن تشعر قادة العالم بالعار وتدفعهم لبذل المزيد وترسيم منطقة حظر للطيران تمنع طائرات الأسد وبراميله المتفجرة من السقوط على المدنيين.
وفي مقال كتبه في صحيفة «أوبزيرفر» البريطانية تحدث فيه عن مكالمة تلقاها من زميل له يعمل في مستشفى «أم وان» في مدينة حلب يطلب فيها النصح حول ما يجب عمله لعلاج مريض يعاني من تشوه كبير في حوضه.
وأخبره الزميل أنه استقبل 20 مريضاً كانوا يعانون من آثار هجوم يعتقد أنه بغاز الكلور. ونظراً لأن غرفة الطوارئ كانت مزدحمة وليس لديه أقنعة أو عبوات الأوكسجين الكافية لمساعدتهم على التنفس فقد توفي مريضان لاحقاً عندما تحول الكلور إلى حمض هيدروكلوري ودمر رئتيهما.
وواصل الحديث مع الطبيب في اليوم التالي حيث أخبره عن قصف مستمر من الطيران الروسي وتدفق أعداد كبيرة من الجرحى والقتلى.
ويتحدث نوط عن الطفل عمران حيث تلقى مكالمة من زميل يعمل في المستشفى نفسه منذ بداية الحرب وقال إنه عالج الطفل وتعامل مع الجرح الذي أصاب فروة رأسه وأنه بحالة جيدة وسيخرج من المستشفى.
وعرض عليه الحديث على التلفزيون البريطاني. ووافق بشرط عدم ظهور صورته، وكانت كلماته التي قالها هي «ساعدونا من فضلكم».
ويعلق نوط أنه يعرف مكان زميله الذي لم يرتكب ذنباً سوى مساعدته الجرحى مع زملائه المتعبين والذين يعملون على مدار الساعة ولا يريدون المغادرة بسبب العمل الكبير الذي ينتظرهم.
نقطة تحول
ويعلق نوط «يجب أن تكون صورة هذا الطفل نقطة تحول في هذه الحرب، ويجب عدم النظر إليها ونسيانها في غضون 24 ساعة. واحتفظ بصور على هاتفي النقال وجهاز الكمبيوتر الخاص ولكل الحالات التي عالجتها في حلب.
والصور التي أحملها هي أسوأ بكثير من صورة عمران، فهي لأطفال قتلوا وكانوا يموتون.
وألقيت محاضرات وعرضت الصور وبكى من بين الجمهور وتساءلوا لماذا أصبح العالم بدون قلب؟».
وأشار إلى موقف الرئيس الأمريكي باراك أوباما الذي كان ينتظر تصويت البرلمان البريطاني على ضرب النظام السوري بعدما تجاوز الخط الأحمر الذي رسمه أوباما واستخدم السلاح النووي، حيث قتل 400 طفل من بين أكثر من ألف في الهجوم على الغوطة الشرقية في آب/أغسطس 2013. وجاءت نتيجة التصويت 285 ضد و272 مع المشاركة العسكرية. ويقول نوط إن العالم لو أظهر قيادة قوية «فليس لدي أي ذرة شك من انهيار الهيكلية العسكرية للنظام».
وتحدث جورج أوزبورن، وزير الخزانة البريطاني السابق معلقاً على نتيجة التصويت «آمل أن لا تكون هذه لحظة ندير فيها ظهورنا لمشاكل العالم». ويقول نوط إنه قرر بعد هذا التصريح حزم امتعته والسفر إلى حلب حيث أقام هناك 6 أسابيع.
وعمل في الجانب الذي كان يسيطر عليه المقاتلون التابعون للجيش السوري الحر. وخلال الفترة التي عمل فيها بالمدينة قضى معظم وقته وهو يدرس الجراحين على كيفية التعامل مع المصابين بطلقات نارية.
وكانوا يعالجون ما بين 10 -14 حالة في اليوم. ويعتمدون على وحدة العناية المركزة التي كان أطباء في العناية المركزية يدعمون عملها عبر سكايب من واشنطن.
ويضيف نوط أنه كان الطبيب الغربي الوحيد في المدينة حيث كان تنظيم «الدولة» يسيطر على الجزء الشمالي بشكل جعل من المرور عبر نقاط التفتيش أمراً صعباً.
ولم يكن هناك صحافيون والحالة هذه ولهذا لعب نوط دور الصحافي بعد عودته من حلب حيث تحدث عن رعب الحرب والقصف اليومي واللعبة التي يلعبها النظام مع الأطفال والنساء.
وعندما عاد من حلب في سبتمبر 2014 كان الطيران السوري لا يزال يحلق على مستوى منخفض وتواصل المروحيات رميها البراميل المتفجرة المحشوة بمادة تي أن تي والتي تقتل بطريقة لا تميز «كل يوم كان مناسبة جماعية للإصابات».
ويقول إن النظام اعتبر كل السكان الذين يعيشون في مناطق المعارضة إرهابيين. وبهذه المثابة فقد كان النظام يتعامل معه كإرهابي وهو الطبيب الذي ذهب بمهمة إنسانية، ولو اعتقل لعذب ولواجه مصير عباس خان الطبيب البريطاني، طبيب العظام الذي تطوع في بعض المستشفيات كما فعل نوط.
ويضيف نوط أن تشرين الأول/اكتوبر 2014 كان مرحلة مرعبة حيث قتل تنظيم الدولة فيها الرهائن الغربيين ومن بينهم البريطاني ألن هيننغ الذي كان يوزع المساعدات الإنسانية قرب حلب. وبسبب الخوف لم يحضر الصحافيون أو عمال الإغاثة الإنسانية. وانتهز الأسد الفرصة وارتكب أفظع الأعمال.
توسيع التأثير
ثم جاء التدخل الروسي بناء على مناشدة من نظام الأسد الذي كان يتداعى رغم الدعم الإيراني وحزب الله له. ويرى أن التدخل في سوريا ناسب النظام الروسي، فمن خلال الوقوف ضد الغرب أصبح لاعباً دولياً وتحدى احتكار التأثير الغربي على الشرق الأوسط. وأدى التحالف الروسي- السوري إلى تعاون المعارضة السورية، فكلما حققت هذه تقدماً على الأرض زاد القصف الجوي عليها.
في تطور دائري للنزاع الذي نراه الآن. وعليه «فصورة عمران تجسد العنف الذي يمكن بثه على شاشات تلفازنا، وهي أفضل تعبير من الصور للأطفال الخارجة من حلب ويجب أن تشعر قادة العالم بالعار».
ويأمل أن تدفع الغرب للتحرك والتخلي عن دور المراقب المسالم «فهذه الحرب مختلفة لأنها حربنا، فاللاجئون الذين تدفقوا على أوروبا جاءوا لأننا لم نبذل جهداً لوقف المعاناة، ولو انتظرنا خمسة أعوام أخرى فسيقتل مليون شخص وسيشرد 20 مليون آخر».
ويقول إن النقطة الرئيسية حول بقاء أو رحيل الأسد، ويجب أن يذهب لأن اللاجئين لن يعودوا إلى بلادهم طالما بقي في السلطة.
ويضيف أن بريطانيا لديها رئيسة وزراء جديدة وهي قوية مثل جون ميجر الذي أقام منطقة حظر جوي للأكراد الذين تعرضوا لقصف طيران صدام حسين «وعلى تريزا ماي إظهار نوع من القيادة.
وأول شيء عليها أن تقوم به هو إقامة منطقة حظر جوي تمنع الطيران السوري من إسقاط البراميل المتفجرة وعلى المجتمع الدولي دعمها».
رمز للحرب
ولا غرو فصورة عمران كشفت عن الضحايا الحقيقيين للحرب في سوريا. وكما جاء في مجلة «تايم» الأمريكية فقد «أصبح عمران رمز الحرب الأهلية المتواصلة في سوريا، ولكنه واحد من 75.000 طفل يكافحون للبقاء في الجزء الشرقي من حلب المقسمة والتي كانت يوماً مدينة عظيمة وتقع في قلب النزاع بين نظام بشار الأسد والمتمردين الذين يحاولون الإطاحة به».
وقالت إن سيطرة القوات الموالية للحكومة، في حزيران/يونيو وبدعم جوي من الطيران الروسي على طريق الكاستيلو، آخر معبر يؤدي لمناطق المعارضة جعل الحياة صعبة لـ 300.000 سوري يعيشون هناك. ومع نجاح قوات المعارضة كسر الحصار المفروض على المواطنين هناك إلا أن الحرب زادت وأصبح الوضع أسوأ.
وتحذر منظمات الإغاثة التابعة للأمم المتحدة وجماعات المعارضة من كارثة إنسانية.
وأكثر المواطنين في حلب عرضة للكارثة هم الأطفال الممنوعون من الذهاب إلى المستشفيات أو المدارس التي تعتبر غير آمنة ويعيشون في خوف دائم من هجمات جديدة، فهم ناجون ولكنهم لا يعيشون.
ونقلت «تايم» عن عمال خدمة إنسانية مطلعين على الوضع في حلب شهادات كشفت شهاداتهم عما تعاني منه المدينة من نقص في الطعام والماء. فلا يوجد هناك سوق أو محلات يمكن من خلالها شراء التموين اليومي.
ولهذا حاول الكثير من السوريين تأمين احتياجاتهم اليومية بزراعة الخضروات في الحدائق الصغيرة ببيوتهم إلا أن حالة الجوع دفعت الناس إلى طبخ أوراق الشجر.
وبحسب تقرير لمنظمة «هيومان رايتس ووتش» فقد ارتفعت أسعار المواد الأساسية منذ بداية الحصار.
ويبلغ سعر كيلو الأرز الآن 14 دولاراً و السكر 20 دولاراً أما زيت الزيتون فيصل إلى 44 دولاراً.
كما أن وضع الماء أسوأ، فلم تصل المياه لحوالي مليوني شخص في المدينة منذ 31 تموز/يوليو، ويعتمد سكان حلب الشرقية، وثلثهم من الأطفال على المياه غير الصحية في الآبار.
وعادة ما تكون هذه عرضة للقاذورات والبراز مما يجعلها غير قابلة للشرب. ونظراً لعدم توفر الوقود لغلي المياه فإن الأطفال يصابون بالمرض بسبب ضعف جهاز المناعة لديهم. ونقلت المجلة عن عبد الكريم إكزايز، المنسق الصحي في منظمة «سيف ذا تشيلدرن» قوله إن فريقه شاهد زيادة في الأمراض التي تصيب الأطفال بسبب المياه وقال إن نقص المياه الصحية هو «أكبر خطر صحي»، وقال «لا أحد يمكنه التأكد من صلاحية المياه للشرب وتصبح ملوثة بشكل سريع».
ويرى أن الأطفال أكثر عرضة للأمراض النابعة من المياه غير الصحية. ونظراً لعدم توفر اللقاحات في سوريا منذ أربعة أعوام فجهاز المناعة لديهم يظل ضعيفاً.
لا صحة أو ملجأ
أما التحدي الثاني الذي يواجه حلب فهو غياب العناية الصحية، فقد كانت المستشفيات هي الضحية الأكبر. فمن بين 8 مستشفيات في حلب الشرقية تم تدمير 6 منها. واتهم الأسد وحلفاؤه باستهداف المستشفيات.
ولم يبق في حلب الشرقية اليوم سوى 35 طبيباً يعالجون 300.000 نسمة. وبحسب مدير العمليات في «أطباء بلا حدود» باولو ماركو بلانكو «أن تكون طبيباً اليوم في حلب هي من أخطر المهن التي يمكن تخيلها».
وقال إن العديد من الأطباء قتلوا بسبب القصف وهناك من غادر منهم وبقيت قلة وضعت حياتها على خط النار ولكنهم يعرفون أنهم يواجهون خطراً كبيراً. وبسبب هذا الوضع لا يتم إرسال الجرحى ومنهم أطفال إلى المستشفيات للعلاج.
ويقول بلانكو «يقول الأطباء إنه عندما يصاب شخص فعليهم اتخاذ قرار بإرساله للمستشفى وتعريض حياته للخطر أو تركه يتألم في البيت». وتواجه المستشفيات الصغيرة مصاعب خاصة انها عبارة عن شقق أو طوابق سفلية لا يتجاوز عدد الأسرة في الواحد منها 40 سريراً. وفي بعض الأحيان عليها التعامل مع 100 حالة. أما التحدي الثالث لسكان حلب فهو غياب الملجأ.
ونتيجة لنقص مواد البناء تظل المباني التي تتعرض للقصف على حالها بدون إصلاح عندما تتعرض للقصف. وينتقل السوريون من مكان لآخر تجنباً للقصف وغالباً ما تشترك خمس أو ست عائلات في البيت الواحد. ولا يوجد دعم للأطفال الذين فقدوا والديهم وأمهاتهم ولهذا تقوم العائلات الأخرى أو أقاربهم بمواساتهم.
ويضاف لمأساة أطفال حلب غياب التعليم. وتقول منظمة «سيف ذا تشيلدرن» إن 16 من بين 46 مدرسة تدعمها تعرضت للقصف الجوي مباشرة أو غير بطريقة غير مباشرة. وتفضل العائلات عدم إرسال أطفالها للمدارس حماية لهم.
ويقول إكزايز «كنت أرى العديد من الأطفال يمشون أو يركضون نحو مدارسهم أما الآن فيجلسون في بيوتهم» وحتى عندما يذهبون إلى المدارس فالاصوات المزعجة والقصف تمنعهم من التركيز.
ونقلت عن خالد الخطيب المصور لدى «الخوذ البيض» التي تعمل في عمليات الدفاع المدني أن الكثير من الأطفال يتركون التعليم للبحث عن الطعام «هناك الكثير من الأطفال الذين فقدوا آباءهم وهم بحاجة للعمل والحصول على الطعام».
ويعملون في الخياطة أو حمل الأشياء وبيعها «لا يعيش الأطفال في سوريا مثل غيرهم في الدول الأخرى». واليوم العادي بالنسبة لأطفال حلب كما يقول الخطيب «مشاهدة التلفاز لدقائق وحمل المياه والإستماع للقصف الجوي».
الحزن لا يكفي
وكتبت في هذا الإطار إيما غراهام هاريسون من حلب عن تداعيات صورة عمران قائلة إن الغضب الدولي لم يرفق بدعم المحاصرين والذين يتعرضون للقصف اليومي.
ونقلت عن عائشة التي فرت من القصف مع عائلتها إلى ريف حلب «كل السوريين وأنا نفسي نشكر العالم لشعورهم بالحزن لكن لماذا لا يساعدونا على تحقيق السلام»، وأضافت «السبب في كل هذا هو بشار الأسد». وقالت هاريسون في تقرير نشرته صحيفة «أوبزيرفر» إن السوريين يريدون نهاية للحملة الجوية. فرغم إطلاق المقاتلين صواريخ على المناطق الخاضعة لسيطرة النظام إلا أن مجالها يظل محدوداً.
ويظل أقل من تأثير الطيران الروسي وذلك التابع للنظام الذي يستهدف المدارس والمستشفيات والمنازل.
ويشعر السوريون بحالة من الإحباط نظراً لتركيز الغرب على فظائع تنظيم الدولة التي حرفت الانتباه عن جرائم أعظم ولكنها لا تنال عناية الإعلام. وذكر المرصد السوري لحقوق الإنسان أن الضحايا المدنيين بسبب القصف الروسي تفوق ولأول مرة على عدد الضحايا المدنيين على يد تنظيم الدولة.
فتجاهل السياق العسكري والسياسي لمأساة عمران فإن الغرب يقلل من معاناة المدنيين الذين قرروا البقاء في مناطق المعارضة أو لم تتوفر لديهم الوسائل للمغادرة.
وبحسب استاذ جامعي «لا نريد أن يعرف العالم أننا نموت كمدنيين هنا، فهذا لا يكفي. بل نريد من العالم أن يعرف من يقوم بقتلنا ومن يقوم باستهدافنا».
إبراهيم درويش – القدس العربي