ها أنا في بيروت صديقاتي، بدلاً من الترحاب بي يسألنني بمحبة: متى تعودين إلى باريس؟ ألست خائفة من التلوث وامكانية الانفجارات والحروب ناهيك عن قطع الكهرباء.
أقول لهن إنني بحاجة دائمة إلى تعبئة «بطارياتي» الأبجدية والروحية في الوطن. تعبت من الغربة، ثم إن روحي ليست أغلى من أرواحهن.
أحب باريس ولكن لن يكتبوا يوماً على قبري «كاتبة فرنسية من أصل عربي».
وأتفق مع فيصل جلول الذي يعيش من زمان في باريس حين كتب يقول: في باريس انت أجنبي إلى الإبد. وعليك ان تتصرف كأجنبي خاضع على الدوام لاختبار سلوكي على غرار: «برافو أنت تتحدث الفرنسية جيداً. أو «برافو أنت لبناني ولست عربياً». او «لست كالعرب الآخرين»…
سوري خائف في بيروت
جاء شاب يحمل لي طعاماً جاهزاً طلبته من مطعم بيروتي يُفترض أنه أقل (سموماً) من سواه!
تحذير صديقتي ليلة العشاء الأول في بيروت من الطعام (المسرطن) شبه المسموم وضعته في خانة الطرافة. ولكنني فوجئت بأنها قد تكون الحقيقة. قررت أن (أسلمها ربانية) كما نقول في دمشق.
وضع الشاب الطعام على المائدة ثم قال لي بلطف بالغ «صحتين وهَنَا» وهو تعبير قاله بلهجة سورية. وسألته على نحو عفوي: هل أنت سوري؟ وبدت على وجهه أمارات الخوف وهو يسارع هارباً نحو باب الخروج مردداً بصوت مرتجف خافت: نعم يا خانم.
قلت له: وأنا أيضاً سورية.. أهلاً بك.
وهنا تدفق المسكين بالشكوى بعدما اطمأن قلبه قائلاً: إنهم يكرهوننا في لبنان. كنت طالباً جامعياً في بلدي، وانظري إلى حالي اليوم.
ظللت صامتة فالقضية معقدة، ومركبة، وقطع الأرزاق يساوي قطع الأعناق، واللبناني يعتقد أن السوري يسرق من فمه لقمة العيش وهذا ما قاله لي الشاب اللبناني الذي يقوم بقياس ضغط الهواء في دواليب السيارة وكنت قد مررت به لهذا الغرض. هذا الشاب يعرفني باسم زوجي البيروتي جداً ولا يخطر بباله أنني سورية. قال لي ان رب العمل وجه له إنذاراً ليفتش عن عمل آخر لأنه وجد سورياً يقوم بعمله بأجر يقل كثيراً عن أجره. وانه ورفاق له سيطالبون بسن قانون ضد سرقة السوري للقمة عيش اللبناني. وأضاف: اللاجئون السوريون أكثر من ربع سكان لبنان فكيف نتحملهم ونحن نقوم بتحصيل رزقنا بصعوبة. وثمة ايضاً ما لا يقال ويتعلق بنقمة لبنانية على حقبة مخابراتية سورية.
في الليل شاهدت على شاشة التلفزيون لبنانياً على وشك الهجرة بغرض العمل يتحدث بانفعال فتاك ضد سارق لقمة عيشه: السوري! وكان والده قد سُجن أيام «الردع السوري» وأخطاء كثيرة.
نصفي السوري يتعاطف مع اللاجئ. نصفي اللبناني يتفهم مشاعر «ابن البلد». والحل يعرف الراسخون في السياسة صعوبته ويذكروننا بأننا لسنا أمام مشكلة محدودة المدى بل نحن أمام ساقية من ينابيع الشر متعدد الجنسيات واللاعبين الكبار، وأننا ما زلنا في أول (المشوار) المرعب. هذا ما قالته لي عرافة رواياتي «خاتون»!
لا سعيد ظافراً إلا إسرائيل
يا لسعادة إسرائيل بما يدور، فنحن نقوم عنها بما كانت تشتهي القيام به، أي تمزيق أوصال وطننا العربي وزرع الكراهية بين شعوب عربية بل وبين طوائف عدة صار بعضها يكره الآخر أكثر من كراهيته لإسرائيل. وها هي إسرائيل تسترخي في المسجد الاقصى وتمدد ساقيها فوق الجولان ونحن نيام!
بيروت كابوسي المفضل!
ذهبت للمشي كعادتي على رصيف جاري شاطئ «الرملة البيضاء» في بيروت وهو شاطئ رملي جميل مجاني للفقراء ولم يبق سواه لهم بعدما تمت سرقة البحر منهم وتحول الشاطئ البيروتي إلى مسابح (راقية) باهظة الاسعار، كما تشي تحقيقات صحافية عديدة محلية.
صديقة بيروتية زودتني بمعلومات أحزنتني: ثمة مشاريع لتحويل هذا المكان ايضاً إلى منتجع جديد للأثرياء.. بعدها قرأت في الصحف حول ذلك وكل فريق يتهم الآخر، ونحن الآن فيما يشبه الهدنة والشاطئ متروك للفقراء.. اما الرصيف فحكاية اخرى.. إذ التقيت بمتسولتين تتشاجران على موقع (استراتيجي) قرب «بائع القهوة» في عربته، وكل منهما تتهم الاخرى بأنها (تحتل) مكانها للتسول. وراعني أن إحداهن سورية والأخرى لبنانية تجد السورية (محتلة) لموقعها ولرزقها وهو التسول! وكنت قد ذهبت لملء اضطراب روحي بالبحر الشاسع فعدت مكتئبة من ظاهرة لا تبشر بالخير..
لنعترف.
ثمة أحزان لا يتسع لها لبنان. مليون ونصف مليون نازح سوري.. وخوف لبناني من رفض أولئك العودة إلى بلدهم حتى ولو أتيح لهم ذلك!!.. (أو توطينهم بالإرغام) من دون ان يكون أمام السوري المسكين الخيار. وعلى الرغم من الاحزان التي يستثيرها ما يدور في لبنان، ظللت أشعر بالرغبة في البقاء في بيروت فهي كابوسي المفضل!!!
الهرب إلى الشارع البنفسجي
بدأت الاحزان تفيض من قلبي قبل انقضاء اسبوعي الأول، وكيفما تلفت هنالك ازمة ومأساة.. صديقة جاءت لمرافقتي إلى أحد المعارض. ركبت معها في سيارتها لأتأمل بيروت التي أفتقد شوارعها، وحين تجاوزنا (حديقة الصنايع) وتابعنا صوب شارع سبيرس تعالت أبواق السيارات بسبب الزحام وصارت تزحف بسيارتها كسلحفاة ورفعت رأسي إلى الأعلى هاربة ما دمت لست أنا التي أقود السيارة وهنا فوجئت بالجمال البيروتي الأزلي ينسكب على رأسي مطراً من البهاء.. ففي هذا الشارع وسواه أشجار لها أزهار ربيعية بنفسجية صغيرة تشع بالضوء كأنها منحوتة بنور بنفسجي. وهنا لم أعد أسمع أصوات ابواق السيارات ولا الشتائم المتبادلة بين السائقين.. بل صرت أمشي على قمم هذه الأشجار النفسجية في شارع من السكينة والطمأنينة.. وتذكرت غوطة دمشق حيث كنا نذهب في الربيع في (سيران).
على الرغم من كل ما يدور في بيروت ما زالت تحتفظ بجماليات استثنائية كأنها تجرح ثم تداوى.. ألم أقل لكم إن بيروت كابوسي المفضل؟
القدس العربي – غادة السمان