الاتصال الذي لم تتضح ملامحه بعد عبر مزيج من الاستفهام والاستنكار بين وزير الخارجية الأردني أيمن الصفدي وزميله في الحكومة نفسها وزير الاتصال الناطق الرسمي الدكتور محمد المومني قد لا يعكس وجود تباين في وجهات النظر بقدر ما يعكس في جوهره غياب التصور الحاسم حول نهايات الحبل السياسي المشدود مع النظام السوري تحديدًا.
تحفل منابر الاخبار والأنباء الأردنية والسورية بتلك المعطيات التي تؤكد أن جيش النظام السوري بعد أكثر من اربع سنوات من الغياب يعود بالتدريج وببطء وبلا قتال يذكر إلى مساحة واسعة من الحدود مع الأردن مستثمرًا فيما يبدو أجواء تلك اللحظة التي ضغطت بشدة وعنف وقسوة على عمّان بعدما تركتها واشنطن وتل أبيب وحيدة في مواجهة سيناريو روسي تحت اسم خفض التوتر جنوب سوريا.
الوزير المومني كان قد أطلق تصريحًا هو الأكثر إيجابية منذ عام 2011 متضمناً إشارات بأن اتصالات عميقة وباطنية تجري مع قنوات في النظام السوري. وفي الوقت ذاته تضمن تصريح المومني ما يوحي بأن حكومته ترحب بعودة النظام السوري إلى نقاط الاستحكام على الحدود وبصيغة أظهرت أن عملية عودة جيش بشار الأسد إلى تلك القرى والبلدات التي تركها قصدًا على طول الحدود في درعا أو بمحاذاة السويداء هي سلوك ممنهج ومتفق عليه ومحصلة بالنتيجة للظروف التي وجد الأردن فيها نفسه وحيداً أو متروكاً عندما يتعلق الأمر بالحدود مع سوريا.
أيضا توحي الصيغة نفسها بأن عمّان قبلت بما تيسر من خضوع للأمر الواقع ضمن صفقة الحد الأدنى وبضمانة موسكو والصفقة هنا ضمن متطلبات الأولويات الأردنية المتعلقة بإبعاد الميليشيات الطائفية الإيرانية واللبنانية والعراقية أكبر مسافة ممكنة عن نقاط التماس مع الأردن.
حدية في الاستفسار
لسبب غامض حتى الآن لم يعجب تصريح وتعليق الوزير المومني زميله المختص بالملف الخارجي فتسربت لأوساط النخبة السياسية تلك المعلومة المتعلقة باتصال هاتفي من الأول للثاني فيه بعض الحدية في الاستفسار أو الرغبة بفهم ما يجري.
المشهد يوحي ضمنيًا أن حلقة المسؤولين فيما يبدو قد لا تكون موحدة عندما يتعلق الأمر بتغذية المعلومات حيث أن مصداقية الوزير المومني تبرز بوضوح ضمن رؤية الواقع لأن عودة جيش النظام السوري بلا قتال في محور السويداء بالتوازي مع إبعاد مسلحي العشائر الذين يرتبط الأردن بعلاقات متميزة معهم خريطة جديدة في المشهد لا يمكنها أن تبرز من دون تواصل وقنوات خلفية.
ثمة في الأفق دليل إضافي على أن بعض القنوات ولو في مستواها الأمني مع النظام السوري تتفاعل فالأردن هو الجهة التي تسلمت الطيار السوري الأسير من مجموعة «أسود الشرقية» المعارضة وهو الجهة التي سلمت الطيار نفسه للنظام السوري ضمن ترتيب وصفقة لم يكشف عن أوراقها بعد.
لافت جداً في السياق أن تحول الأردن إلى صيغة وسيط ومفاوض بين النظام السوري ومجموعات مسلحة المستجد الأبرز في المشهد لا بل الدليل الأقوى على وجود قنوات اتصال خفية أو خلفية من الواضح ان الحفاظ على منتجها السياسي والأمني تطلب ذلك التصريح الذي صدر من المومني ولم يعجب زميله الصفدي حتى الآن على الأقل لسبب غامض.
صفقة الطيار
صمت سلاح مجموعة عشائر السويداء والوساطة في صفقة الطيار مع مجموعة أسود الشرقية وترتيبات تخفيض التوتر كلها.. خطوات عملية في الواقع على شكل أدلة وبراهين تظهر وجود قنوات خلفية أو غير علنية من التواصل بين الأردنيين والنظام السوري بعيداً حتى عن تلك المجاملات والمغازلات الفارغة بين الطرفين أثناء استقبال دمشق وفداً يفترض أنه يمثل هيئات شعبية أردنية.
الاستفسار الاستفهامي من الوزير الصفدي قد يعكس تبادلاً وتقاسماً للأدوار وقد يعكس في سيناريو آخر عدم وجود معطيات موحدة تضخ بصورة مركزية في هرم المسؤولين الأردنيين، وقد يعني في سيناريو ثالث مقترح عدم وجود قرائن قوية عليه ووجود تباين في وجهات نظر نخبة من كبار المسؤولين على خلفية المشهد السوري.
سر الاستفهام سياسياً يكمن في أن وزير الخارجية يتبنى أو يتحرك ضمن المحور المكلف برفع مستوى الاتصال والتنسيق مع روسيا من دون التورط في قنوات مباشرة مع نظام بشار الأسد، وبالتالي يمكن فهم الحالة النخبوية الناتجة عن تبني الوزير الصفدي لمنهجية عدم وجود قناة اتصال مباشرة مع النظام السوري وهو ما قاله فعلاً في مناسبات عدة.
ويمكن أن ينطوي الأمر على العكس تماماً حيث توجد قنوات لا يمكن التحدث عنها رسمياً أو تشتغل بعيداً عن مسؤول الإدارة الدبلوماسي الأول خصوصاً أن الوزير الصفدي نصح بتقليل الاحتكاك وتقنين الظهور بحكم قربه الشديد من مركز ثقل القرار.
تقاسم أدوار في دمشق
بعيداً عن تلك الحسبة بين الوزراء والمسؤولين يمكن القول إن الأردن يجتهد في التعاطي براغماتياً مع مرحلة ما بعد الحسم العسكري الميداني لمصلحة النظام السوري حيث توجد أيضاً في دمشق مدرستان تتقاسمان الأدوار بشأن الأردن الأولى تتحدث عن عدم الانتقام والسعي لفتح صفحة جديدة والثانية يقودها كل من بشار الجعفري والسفير المطرود من عمّان بهجت سليمان التي تلتزم بوظيفة إقلاق الأردن عبر سلسلة من التحرشات اللفظية. الجعفري كان مؤخراً قد أنتج هذا الإقلاق عندما اتهم الأردن بأنه يسعى للمال فقط وتعليقات السفير الجنرال بهجت سليمان التي تحاول النيل من الأردن متواصلة على الشبكات الإلكترونية.
يبدو المشهد في حاجة إلى تحليل فأركان النظام السوري يتبادلون الأدوار مرة لمصلحة الإيجابية تجاه الأردن كما فعلت بثينة شعبان ومرة تجاه إظهار نوازع الرغبة في الانتقام أو صعوبة الغفران السياسي. تلك مفارقة ينبغي أن يقرأها الأردنيون جيداً بعيداً عن غرور اللحظة والذهنية القديمة القائمة على فكرة القدرة على التحدث مع الجميع في الوقت نفسه.
وهي قراءة قد تفسر أيضاً وجود وجهتي نظر في عمان تحاول الأولى منهما منع نظام بشار الأسد من ابتزاز المملكة بالتدريج وبالقطعة وتسعى الثانية للإيحاء بأن تعاون الأردن حدودياً مع نظام بشار ليس محصلة لحالة ضعف بعد الحسم العسكري إنما لقرار مدروس ينسجم أصلاً مع المكان الذي جلس فيه الأردن سياسياً طوال الوقت في مواجهة تفاصيل وتفعيلات الأزمة السورية.
لا يمكن عملياً التسليم بكل الرسائل الناعمة التي تصدر من دمشق ونظامها، فإرث المخادعة والتضليل والقدرة على التخريب قديم ومشاعر الحسم والانتصار قد تتخللها محاولات انتقام. وفي الوقت عينه والدرجة ذاتها لا يمكن التسليم المقابل بالإبقاء على حالة عداء وخصومة مع نظام بشار في الوقت الذي تظهر فيه المرجعية الروسية اهتماماً كبيراً لطمأنة الأردنيين.. هنا حصرياً وفي اللحظة الراهنة يكمن المأزق الأردني.
القدس العربي