حيث كان الانتظار لموعد كهذا، كفيل بالحضور المبكر لهذا المكان.. وفي أثناء انتظاري لهذا الموعد لدى طبيب الأسنان، جلست مع شخصيات متنوعة، كان الجميع كما لاحظت من مناطق مختلفة من المدينة وريفها، كما أنني لمحت اللامبالاة في حياتهم كالثياب والنظرات والأحاديث العامة.. فيبدو أن هناك أفكارا منهكة تراود مخيلة كلٍ منهم، وهذه الأفكار كفيلة بعدم منحهم الاهتمام الكافي للمظهر الخارجي، لكن ليس هذا ما أستدعى الانتباه لديَّ، فهناك في الزاوية وجه عابس لامرأة يكلل البؤس ملامحها.. أهو رضا واحتساب أم استسلام لمجريات الواقع؟!
كل هذا قرأته في تفاصيل وجهها المنهك.. أما من جانب آخر.. وبجانب هذا الكم من الحزن البادي على وجه الأم، كان بجانبها طفل يطير سعادة.. طفل صغير يمتلك وجها كـــ “الشمس” لحظة الشروق.. عينان كـلون الكراميل الممزوج بالعسل، نظرة مضيئة كــ” نجمتين” لامعتين في ليلة مظلمة، وشعر جميل يتأرجح كانسياب النسمات.. بدأت أمه في لحظة مــــــا بإعطائه الأوامر “خليك جنبي، لا تروح، خاف تضييع… “.
أما عن روحه التي تطير فرحاً فجعلتني أتجرأ للمبادرة والتحدث مع أمه:
– ما شاء الله عليه، الله يخليلك ياه، أشو أسمو؟
– الله يسلمك يا رب.. (مع ابتسامة خفيفة ناتجة عن ملامح الحزن)
وبشكل مباشر وبأسلوب عفوي
بدأت تتكلم عن حياة ابنها الذي لا يتجاوز عمره ال6 سنوات.. بأنه “يوماً ما كان يلعب مع أولاد عمه في أحد الشوارع ففـقد عينه خلال لعب عشوائي مع أطفال الحي”.. وبدأت تتكلم عن معاناتها مع الوضع الصعب الذي مرت به، والعمليات التي بدأت باتخاذها للإسراع في علاجه، شرحت باختصار ما قامت به من انتقال إلى منطقة قريبة لاتخاذ إجراءات العلاج خلال شهرين متتالين في فصل الشتاء، وقد عانت ما عانته في فصل كهذا، لكن لم تكن هناك نتيجة: كل الأطباء أعلموها أنه احتمال العلاج صفر بالمئة! فتخبرني أنها في أثناء زيارتها لإحدى الصديقات المقربات سألتها عن حال ابنها:
– ما في جديد، الأمل ضعيف، وما في طريقة للعلاج.
فأعلمتني أن صديقتها تسرعت تدرجات صوتها عند إخبارها بهذه الكلمات، وكلمتها:
– روحي على الشام، أشو بها لسهولة بدك تستسلمي؟!
وهكذا كان بإمكان الصديقة تشجيع صديقتها للسفر إلى “دمشق”.. وأخبرتني ما عانت به في الطريق من ظروف.. ووصلت فيما بعد إلى العاصمة حيث الأمل المنشود، وتكمل لي بأن بعد رؤية الطبيب لطفلها، كانت نتائج التقرير (أن شبكية العين في حالة ممتازة، وهناك احتمال للنجاح..)..
– طرت من الفرح.
وبعد دقيقة صمت، أكملت لي الأحداث..
– فيما بعد أجرى ابني العملية، وبدأت فترة الانتظار.. مضت ساعتان ولم يخرج الدكتور، بعد زمن حسبته سنوات خرج أحد الممرضين سألته: طمنوني!
– كل شي تمام اطمّني.
أخبرتني أنها جلست ساعتين كاملتين تنتظر.. يبدو أنها جلست مع دعواتها في ممر أصبح بالنسبة لها مكان يجتاحه القلق.. خرج الطبيب
– طمني يا دكتور!
– العملية نجحت.
وفي أثناء إخبارها لي عن لحظة تلقيها كلمتي الدكتور (العملية نجحت) كان يجتاحها شعور السعادة الممزوج بدموع الفرح على الرغم أنه بات من الماضي أحسسته “الواقـــــــع”.
تأثرت جداً لكلمات هذه الأم.. وتأثرت لحال هذا الطفل الذي مر بكل هذا الوجع في مرحلة مبكرة من حياته.
وكيف لهذه الأم أن تستوعب هذا الكم من الشقاء؟ وكيف لها أن تحوي هذا الكم من الحزن في أعماقها؟
فأدركت الآن المعنى الخفي لتلك الملامح البائسة التي كانت خلفها كلمات وجع وخوف على مستقبل طفلها.
أية الخالد – المركز الصحفي السوري