كان موقفاً صعباً جدًّا بالنسبة لي..
حين دُعيت بعد شهر من وصولي إلى السويد، للتحدث في جمعية الثقافية العالمية في يوتوبوري (غوتنبرغ) عن سوريا وتجربتي الشخصية كإنسانة سورية وصحفية خلال الفترة الماضية.
في البداية قررت أن أكتب عن أهم الأيام التي عشتها في حياتي كسورية داخل وخارج وطني، والتي كان سبب معاناتي فيها النظام السياسي الفاسد، وما سبَّبه من مصائب وآلام، وأثناء ذلك سأعرج على أهم الأحداث التي حدثت في تاريخ سوريا، وصولاً للثورة السورية وما تلاها من قمع وانتقام من النظام وعذابات وتشرد ولجوء..
أمسكت بالقلم وبدأت بِسْم الله..
الطفلة التي نفيت بعمر ثلاث سنوات، قررت أن تفتح دفتر المأساة.
هل نفتتح بمجزرة حماة، أم مجزرة تدمر، أم مجزرة الحولة أم أطفال درعا، أم جثث المعتقلين، أم الأطفال المقطوعة أيديهم وأرجلهم!
هل ننتقل إلى الصور؟
دمار حماة.
سجن تدمر.
ليلى التي فقدت القدرة على النطق بسبب مقتل ولادها في القصف.
يمنى التي تتزحلق على الزحلوقة بلا قدمين.
عائلة صديق زوجي الطبيب التي ماتت غرقاً في البحر المتوسط أثناء البحث عن حياة!..
الألم كان طاحناً أثناء محاولتي جمع بعض المعلومات المهمة. حتى أنني أوشكت أثناء العمل، والقصف الروسي المجنون يدمر ريف حلب الشمالي ويقطع أوصال الأطفال، أوشكت على الاعتذار عن كل شيء والانزواء والموت.
حتى أنني اتصلت بصديقتي المنظِّمة وأخبرتها أني أفكر جديًّا بالاعتذار، فالألم فوق طاقتي على الاحتمال ودموعي تنسكب انسكاباً وأنا أكتب عن وطني وعن وجعي.
لكن صديقتي اللبنانية الرائعة الراقية شجعتني وقالت لي: ألم نتفق من قبل على أننا لن نستسلم وسنحاول أن نكمل ونفعل ما نستطيع كما قلت لي من قبل؟!
نعم سنحاول..
حاولت أن أجمع كل ما رأيته مهمًّا، لأن الوقت ضيق ولا أستطيع بالطبع أن أعرض كل شيء.
رافقني جهاز الآيباد الذي أهداه لي زوجي في ذكرى زواجنا لأكتب فيه، رافقني في كل مكان، فكتبت كثيراً وبكيت كثيراً، وكيف لي ألا أبكي وقد وُلدت -كما قلت لهم من قبل- بجرح دائم في القلب؟!
فكيف لمن حرم وطنه وأهله بعد الميلاد بقليل ألا يكون كذلك؟!
كيف لمن هجره الأسد للأبد ألا يكون كذلك؟!
كيف لمن عاش في وطنه في سجن كبير، فمنع من السفر، وكتب عليه ألا يخطو خطوة إلا بإذن أجهزة المخابرات اللعينة وبموافقة أمنية.. كيف له ألا يكون كذلك؟!
كيف لمن كُتب على وطنه الظلم والقهر والعذاب والموت، في طريق المخبز والمدرسة والمشفى والمنفى.. ألا يكون كذلك؟!
أي سطر من المأساة؟ أم أي صفحة سأتكلم عنها؟
بعد كتابة ما يقارب الخمسين صفحة، عرضت ما كتبت على أستاذة جامعية سويدية صديقة، فقالت لي:
نحن قوم لا نعبأ كثيراً بالمشاعر وهذه القصص، عليك أن تتكلمي عن الحقائق.
رغم أني أُحبطت، ورغم أني أعرف تماماً أن كل البشر في العالم يحبون سماع القصص، إلا أنني استجبت للنصيحة وقمت بعد ذلك بتغيير جذري..
جمعت الحقائق الأكثر بروزاً في تاريخ سوريا وحاولت دعمها بالصور المناسبة -سأنشرها في مقال مستقل لاحقاً- وقررت ترك تجربتي لأجمعها في كتاب إن شاء الله.
حاولت، وأظنني لم أوفق تماماً، بسبب ارتباك لغتي الإنجليزية قليلاً، أو لنقل لكنتي المتعثرة قليلاً.
لكنني فعلتها! وكان هذا شيئاً جيداً.
فعلتها، والتمعت عينا كثيرٍ من الحاضرين بالدموع، وهذا يعني أني أفلحت في نقل شيء ما إليهم، عانقتني صديقتي الرائعة بعد الندوة وقالت لي: “برافو عليك، لقد كنت قوية”.
لاحظت تأثر ضابط كبير كان حاضراً، وعرفته بعدها أنه رئيس شرطة الاندماج في “يوتوبوري” الذي بقي بعد المحاضرة يتبادل معي حديثاً مطولاً..
قال لي: ولكن إذا تكلمنا عن أصل المشكلة فما هو رأيك؟ ماذا يمكن أن يكون الحل في سوريا؟
قلت له: مفتاح الحل في سوريا هو زوال الأسد ونظامه، فإذا زال بعد قتل نصف مليون سوري وتشريد الملايين، فليعطِ بعدها العالم الفرصة للسوريين ليحكموا أنفسهم، وينتخبوا بديمقراطية دون تدخل من الخارج كما حدث في مصر، وسوف نتدبر أمرنا.
قال لي: ولكن هل ترين الديموقراطية نجحت في مكان ما في العالم العربي؟
قلت له: نعم، لقد نجحت في تونس، ويمكن لها أن تنجح في كل بلد عربي، مهما تعثرت، فقط لو تركنا العالم في حالنا دون تدخل ومؤامرات ومليارات تدفعها بعض دول العالم لإسقاط الديموقراطية، وخلفهم إسرائيل التي لن يسرها أن تكون هناك دول عربية حرة وقوية في جوارها فهذا يهددها بالزوال.
قال لي: تعرفين أن لدينا هنا ما يقارب مئة وثماني جنسيات، جميعهم قادمون من ثقافات وإثنيات متعددة وجلبوا صراعاتهم معهم. فما الحل؟! حتى أنتم كسوريين لستم واحداً! لكنكم اذا اجتمعتم -وقد أصبحتم أعداداً كبيرة في أوروبا وأميركا- يمكنكم أن تكونوا أقوياء، ويمكن أن تكونوا مؤثرين، ويمكن أن تدعموا وتضغطوا من أجل قضية وطنكم.
قلت له: فعلاً، تماماً أتفق معك. الموقف بالنسبة لكم صعب، لكنك من المستحيل أن تجعل البشر متطابقين. رب العالمين يقول في القرآن الكريم: “ولا يزالون مختلفين.” سورة يوسف الآية 118
قال لي: نعم، أعرف الآية ثلاثين في سورة (الهجرة).. هكذا قالها!
ثم فهمت أنها الآية ثلاثة عشر من سورة الحجرات:
(يا أيها الناس إنَّا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا).
الحقيقة أنه أدهشني، وأدهشني أكثر التماع الدمع في عينيه.
قلت له: إذن أنت تعرف أننا سنبقى مختلفين. لكننا يمكن أن نجد الكثير من القواسم المشتركة.
وحدثته عن المقال الذي كتبته قبل ذلك عن السويد وما رأيته من اجتماع أناس كانت بين بلادهم حروب في عمل واحد وبكل وفاق. ذاك أن السويد بإنسانيتها وعدالتها والقوانين التي تطبق على الجميع سواسية يمكن فعلاً أن تحتويهم. وأن تعطي المجال للبشر ليتوحدوا في أعمال ونشاطات تجمعهم، لها غايات إنسانية عامة ومشتركة. أما الدولة فعليها أن تمنح الجميع الحرية وتحميها لتمنع أي عدوان من طرف على طرف.
اختلافنا مع بَعضنا هو أمر طبيعي جداً، ونحن كمسلمين لنا قيمنا وعاداتنا. فمثلاً أنا كمسلمة لا يحق لي أن أصافح رجلاً، وأن يمد رجلٌ يده إليّ ليصافحني، فهذا حرج كبير بالنسبة لي، لأَنِّي لا أريد أن أخجله، وفي نفس الوقت لا أريد أن أخالف ديني.
هذا ليس تصرفاً عدائيًّا ضد المجتمع الغربي، ولكنه ديني الذي أحبه وأحترم تعاليمه.
(الحقيقة كان موضوع المصافحة يشكل قلقاً بالنسبة لي، لكن مضت الأمسية مع حرج واحد واعتذار، بما أعتبره أقل الخسائر).
شابة ألمانية جميلة كانت ترقب حديثنا، ثم قالت لي:
أنا الرسامة التي رسمت صور السوريين المعلقة في قاعة المحاضرة.
شكرتها شكراً جزيلا ً، ثم قالت لي:
هل سيكون لديك مانع إن صافحتك؟
قلت لها: بالطبع لا، يسرني ذلك. ذاك أمر يخص علاقتي كمسلمة بالرجال الأجانب ولكن ليس النساء.
تلك الفتاة الألمانية الجميلة كانت تعمل في مساعدة اللاجئين في ألمانيا وطلبت رأيي فيما يخص الحل، فأجبتها بنفس الجواب.
قالت لي: تعرفين أن وجهك وروحك تنبض قوة وطاقة، لذلك لا تتوقفي بإمكانك أن تفعلي الكثير.
وتابعتْ: بالنسبة لي.. كان سيسرني كثيراً أن تتكلمي عن حكاياتك ولا تكتفي بالحقائق.
قلتُ لها: لا بأس، الوقت لم يكن ليسمح بالاثنتين، لكن أعدك ستقرأينها في كتاب قريباً إن شاء الله.
في النهاية بقي على شاشة العرض، آخر صوري: صورة بيت عربي قديم خارق الجمال، بعد صور الحرب والقتل والمجازر والجثث، عرضته لهم ودعوتهم إلى زيارة سوريا بعد الحرب، فأثار دهشتهم واستغرابهم.
هذا ما تبقى وهذا ما نرجو أن يعود لنا بعد أن يوقف المجرم سفك الدماء لنعود إلى أجمل بلاد العالم ونعمرها من جديد.
هافينغتون بوست عربي