وجه وزير الخارجية الأميركية، جون كيري، انتقاداتٍ لسياسة بلاده، وكشف بعض خفايا الموقف الأميركي تجاه الملف السوري. وذلك في حوارٍ جمعه مع بعض ممثلي المعارضة السورية، على هامش اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة. ويعرّي كلام كيري السياسة الأميركية، ويكشف تناقضها وباطنيتها.
حديث كيري محاولةٌ لإبراء ذمة واجهة الدبلوماسية الأميركية من أخطائها وخطاياها. ولهذا التصرف وجهان.. أحدهما أخلاقي، وهو أن كيري يتنصّل من مسؤوليته المفترضة عن أداء الإدارة الأميركية الحالية، وهو أمر غير أخلاقي، أياً ما كانت مثالب تلك الإدارة. خصوصاً أن نوبة الشجاعة والصراحة التي أصابت كيري جاءت قبل شهر فقط من الانتخابات الرئاسية، أي في مرحلة الإدارة فيها ليست سوى حكومة تسيير أعمال. ولا مجال لتصحيحٍ أو تعديلٍ أو حتى لاعتذار. ولو أن السيد كيري يتمتع بحس أخلاقي، وكان بالفعل يرفض ما اعتبرها تناقضاتٍ وحسابات خاطئة من البيت الأبيض، لغادر تلك الإدارة مبكراً، وما بقي على رأس الدبلوماسية التي يتنصّل منها الآن. كما أن الرجل لم يعلن تلك الانتقادات على الملأ، وإنما في حوار مُغلق.
الوجه الثاني سياسي، حيث يؤكد حديث كيري، مجدّداً، أن الولايات المتحدة تعلن غير ما تبطن، وأن الدبلوماسية الكلامية ليست سوى أداة لاستهلاك الوقت، وتمرير أوضاع وخطواتٍ تقبلها واشنطن، لكنها لا تريد تحمل مسؤوليتها. وإلا لما وصل الحال بكيري إلى مطالبة المعارضة السورية، ليس فقط بتقبل وجود بشار الأسد، بل أيضاً باختزال تضحيات الشعب السوري ودمائه خمس سنوات، في انتخاباتٍ يجريها ويشارك فيها ويشرف عليها نظام بشار، تحت سمع واشنطن وبصرها ورضاها.
هذه ليست المرة الأولى التي تتعرّض فيها الدبلوماسية الأميركية لعملية “تعرية ذاتية”، تكشف عوراتها من داخلها. فقبل أشهر قليلة، تسرّبت مذكرة داخلية، أعدها دبلوماسيون أميركيون حاليون وسابقون، موجهة إلى وزير الخارجية. تناولت تقييماً للسياسة الخارجية الأميركية، وكان التركيز فيها على الإخفاقات التي تعرّضت لها واشنطن في مسار حل الأزمة السورية، ويحدّ من المخاطر والتهديدات، سواء القائمة أو المحتملة، على الأمن والمصالح الأميركية. كما كانت واشنطن قد تعرّضت لانتقادات حادة من شخصيات أميركية سياسية ودبلوماسية، بسبب الملف النووي الإيراني، وما آلت إليه المفاوضات التي استغرقت سنواتٍ مع إيران. وهكذا، يبدو واضحاً أن الأصوات الرافضة للسياسة الخارجية الأميركية تخرج أيضاً من الداخل الأميركي. لكنها المرة الأولى التي يأتي فيها الانتقاد من داخل المؤسسة الرسمية مباشرة، وعلى مستوى وزيرٍ في الحكومة، وتحديداً وزير الخارجية نفسه، وهو الذي يفترض، بحكم منصبه، أنه المسؤول الأول عن الدبلوماسية الأميركية. وفي هذا أكثر من معنى مهم، أولها مفهوم وواضح للعيان، هو أن تلك الإدارة ليست متجانسةً، ولا تتمتع بتناغمٍ في الرؤى بشأن طريقة التعاطي مع القضايا الخارجية. وثانياً، حين يخرج الانتقاد للدبلوماسية من المسؤول الأول عنها، فذلك يكشف ما يخفى على كثيرين بشأن توزيع المسؤوليات والصلاحيات في السياسة الخارجية الأميركية، وتحديداً في آليات وتسلسل عملية اتخاذ القرار الخارجي. حيث الدور والوزن الحقيقي لوزارة الخارجية الأميركية أقل كثيراً مما يبدو في الظاهر. بينما تلعب مؤسساتٌ أخرى، ليست في الواجهة، دوراً فعالاً، وربما أكثر محوريةً من الخارجية. من تلك المؤسسات وزارة الدفاع ووكالات الاستخبارات ومستشارو البيت الأبيض. فضلاً عن المراكز البحثية التي يقدم بعضها خدماته مباشرةً إلى تلك المؤسسات. وهناك أيضاً جماعات المصالح واللوبيات والشركات الكبرى، وكلها أطرافٌ تؤثر بشكل غير مباشر على القرار الأميركي، لخدمة أهدافها ومصالحها التي قد لا تتفق بالضرورة مع المصالح الأميركية، كما تراها وزارة الخارجية.
سامح راشد_العربي الجديد