“آه يا بنتي، أعيش في زماني غربتين غربة عن وطني وأرضي يرفقه شوق هائج بين ضلوعي، وغربة بين أهلي أعيش زماناً ليس زماني ،لا أعرف تقاليده لا أعرف معالمه ،لم يبق للحياة طعم بعد هذا العمر “.
لماذا تقول هذا يا عم؟! رغم عمرك لكنك ما زلت شبابًا!!
“وهل تلومين شجرة معمرة عندما تقتلع من مكانها لتزرع في مكان آخر، وخاصة إن وجدت نفسها محاطة بغراس صغيرة ترسم أحلامًا طوال، فقدت من أغصانها الأجمل والأقوى فأي أمل في الحياة بعد أن اشتعل الرأس شيبًا”.
هذا ما لخّصه لنا الحاج أبو عبدو بعد أن بلغ التسعين من عمره ،ومازال في جسده شيء يحكي عن قوته القديمة وعنفوانه العظيم ،تجاعيد وجهه تحكي عدد الآلام التي سكنت معالمها وتغضنت لها ملامحه.
أما ارتعاش يديه يروي تعب السنين العجاف ليبني ما بناه ويزرع ما زرع ليكون ألم الخسارة مضاعفا.
لكن لم تكن تلك الأسباب ما زادت معاناته، فقال واصفاً طامته الكبرى في الحياة، حيث بدأت معاناته الأعظم قبل أحد عشر عاماً بداية الثورة السورية
“لم أصدق أذني حين سمعت، عادت روحي لليلة التي سبقت الفاجعة، سهرت مع أولادي و أحفادي سهرة مليئة بالمرح والسعادة والحب الكبير نودع أولادي الثلاثة الذين أرادوا السفر للبحث عن حياة أفضل بعد الاضطرابات التي حصلت في البلاد بداية الثورة.
ابني الأوسط هيأ نفسه وعائلته قال لي أريد البحث عن مستقبل أولادي يا أبي ، واااه أي مستقبل كتب عليهم.
على طريق لبنان عند حاجز القطيفة ماتت أحلامي وماتت معها لذة الحياة عادت زوجة ابني في اليوم التالي مع أولادها تحمل لي نبأ اعتقال أولادي الثلاثة ، هزت هذه الفاجعة قلبي وروحي ، سألت نفسي ملايين المرات لماذا ؟!ماذا حصل هذا ؟! أولادي الثلاثة يا رب ساعدني”.
https://www.facebook.com/syrianpresscenter/videos/460968595831900/?extid=WA-UNK-UNK-UNK-UNK_GK0T-GK1C&ref=sharing
توقف أبو عبدو ليكفكف دموعه التي ملأت لحيته واهتز لها قلبي من فرط الهم الذي بان على ملامحه وأحنى له ظهراً لم تحنه مرارة الثمانين حولاً.
“ثلاث عوائل بقوا دون معيل وأنا كما ترين لا صحة لي تعينني، وبعد مضي أحد عشر عامًا لم أسمع عنهم خبرًا رغم كل محاولاتنا وما دفعنا لإخراجهم لكن دون فائدة، أهم أحياء.. أموات؟! كل ليلة أدعو الله أن أسمع خبرًا يريح قلبي ليطمئن ويرتاح لكن لا جواب.
زوجتي الثانية أم ولدي الصغير توفيت بعد عام من شدة حزنها لم تحتمل فراق وحيدها ورؤية أولاده أيتامًا دون أب، أما أنا إلى وقتنا هذا أتجرع مرارة الفقد والغربة.
تنهد أبو عبدو تنهيدة حمّلها كل آلامه وحزنه محاولًا جمع شتات أمره ونظر حوله إلى البيت الذي يسكنه في إحدى قرى الشمال السوري مع أحد أولاده في غربته الخاصة كما روى لنا ثم نظر لي وأكمل
الوحدة و اليأس
“ها أنا ذا وحيد في طريق مقفر.. أليم.. أعيش مع جيل يعتبرني من العصر الحجري لا أفهمهم ولا يفهمونني… لم أعد أفهم سوى هذا الهم الكبير المحمول على كاهلي المتعب، تحدثينني عن يوم عالمي للمسنين!! ما الذي يعرفه العالم عمّا نعانيه.. عما عاصرناه في هذه الحرب الطويلة!!
أتذكر أصدقائي الذين سبقوني وتزداد وحدتي بذكراهم.. وحيد أنا رغم أني بين ما تبقى من أولادي وأحفادي، أشتاق لمن غاب، وأشتاق لمن رحل، ولمن في القلب سكن”