الصورة التي نشرتها صفحات موالية، ويظهر فيها القائد في الحرس الجمهوري معلَّقاً بجانبه جثتين مقطّعتي الأوصال، قد تكون الأفظع في ما تسرّب عن قادة قوات النظام حتى الآن. تعليق الجثتين أتى تماماً على مثل ما يفعله بائعو اللحوم في سورية، إذ يعلّقون ذبائحهم الكاملة أو المبتورة بعد بيع أجزاء منها، إنما من دون استعراض أو تفاخر كالذي يبديه الجنرال، أو الذي أبدته أكثر من مذيعة من مذيعات تلفزيون النظام وهي تلتقط صورة تذكارية مع قتلى الفصائل المعارضة.
لا يغيّر في الأمر شيئاً ما إذا كانت ذبائح زهر الدين من عناصر “داعش”، لأن سلوكه استكمال لمذابح بدأها ضباط النظام وعناصره منذ 2011، عندما كانت قواته تدهم مناطق التظاهرات، وتقوم بجز رقاب النشطاء وإلقاء جثثهم من شرفات المنازل. ثم بعد ذلك حدثت مذابح بالسلاح الأبيض، كمجازر الحولة والتريمسة وبانياس، الأخيرة منها شهدت حرق جثث بعد التنكيل بها، وتكفلت كاميرات الشبيحة بنقل فظائعها.
قبل صورة زهر الدين، كانت أوساط شهدت استنكاراً واسعاً بسبب دوس عنصر من فصيل معارض على جثة امرأة في قرية الزارة، الأمر نفسه حصل بسبب استعراض وحدات الحماية الكردية جثث مقاتلي المعارضة في معقلها في عفرين. لكن مسؤولي الفصيل المعارض ومسؤولي وحدات الحماية تبرّؤوا مما اعتبروه سلوكاً غير مقبول، بخلاف النظام الذي لم يعاقب يوماً أحداً من مسؤوليه المشرفين شخصياً على المذابح، وأنكر حصولها في المحافل الدولية، بينما ساهم في ترويج تسجيلاتها لإرهاب المعارضين.
صورة مسلخ زهر الدين قد لا تبقى متاحة إلا لدى من احتفظ بها في أرشيفه الخاص، فبسبب فظاعتها بُدئ بإزالتها عن صفحات التواصل الاجتماعي ومحركات البحث. ذلك يعني أنها أدت دورها الترهيبي من دون بقائها لتؤدي دورها الإعلامي، ومن دون إتاحة الفرصة كي تتناقلها وسائل الإعلام العالمية، إذا قررت إحداها مخالفة السائد والقول أن وحشية النظام السوري تضاهي وحشية “داعش” أو تبزها، أو على الأقل ليست أكثر حداثة منها.
وحشية الصورة لا تُصدَّق، وينبغي أن نجرّد هذا الوصف من أدبيته، طالما أن النظام يعمل للاستثمار في وحشيته التي لا يُراد تصديقها حتى إشعار آخر. على سبيل المثل، يستطيع رأس النظام القول بصفاقة، كما فعل في تصريحات لوسائل إعلام غربية، أن رئيساً مجنوناً هو وحده من يمكن أن يبيد شعبه. هكذا، مُكذِّباً كل ما تعترف به دوائر صنع القرار الغربية من عمليات قتل المدنيين الجماعية، مراهناً على المنطق الغربي الذي يستبعد حقاً ارتكاب كل تلك الفظائع في هذا العصر، والبقاء بلا مساءلة.
التسامح الدولي مع جرائم بشار كان محتّماً أن يقود إلى تفاقمها، وتفاقم المخيلة المتوحشة لنظامه، لكن الأهم ما يؤدي إليه من عدم اكتراث عالمي معمم على مستوى الأفراد تكون ذريعته المثلى نفسياً عدم تصديق ما ينقله الإعلام من فظائع. يتضافر مع العامل السابق تقديم “تنظيم دولة الأسد” بصفته دولة مقارنة بتنظيم الدولة “داعش”، ما يعني إلصاق صفة الحداثة بالأول واستبعاد ما لا يمكن تصديقه عنه، على عكس “داعش” الذي يُنظر إليه بإكزوتيكية تناسب ماضويته وتكون متطلبة لغرائبه وفظائعه.
هي حال غير معقولة، فمع ازدياد وحشية النظام تتعمق اللامبالاة العالمية إزاء ضحاياه، ولا يكفي التلويح بشبح “داعش” لتفسيرها، ولا يكفي فقط القول أن العالم يقارن بين همجيتين ويفضّل منهما التي تقتصر على الأذى المحلي. ربما يمكننا القول بوجود تيارين في الغرب، أحدهما لا يصدّق ما يُعرض أمامه من جرائم، لا يصدّق بحكم العتبة التي وصلت إليها هذه المجتمعات، وبحكم تصوراته عن القانون الدولي. أما الثاني فينحو ضمناً إلى المساواة بين بشار و “داعش”، ولكن على أرضية اقتصار الصراع عليهما، وتالياً النظر إلينا جميعاً ككائنات غير معقولة، كائنات لا تستحق الاهتمام.
طبعاً، في الحال العربية الأمر مختلف، فمن ضمن الاستقواء باللامبالاة الدولية علت أصوات تدعو إلى مزيد من الوحشية، والمزيد من الإبادة، من دون وجود أرضية قانونية في دولها تسمح بمقاضاتها. وليس غريباً أن تكون تلك الأصوات موالية بشدة لأنظمة حكمها. فالتحريض على إبادة المزيد من السوريين مجاز لما ينبغي أن تكون عليه الحال في تلك الدول لو قررت شعوبها الانتفاضة.
الأصوات نفسها تظهر متسلحة بادعاء الحداثة والعلمانية، ومتسلحة على نحو مباشر بالصمت الدولي عن جرائم بشار، كأنها تنسب نفسها إلى نادي “الأقوياء” الدولي الذي لم يعد يخفي تفضيله بقاء بشار.
نحن إزاء وضع يدعو إلى اليأس، دوائر صنع القرار الدولية لا تحتاج إثباتات على جرائم بشار، ومن شبه الأكيد امتلاكها معلومات ووثائق ليست في حوزتنا عن بعض جرائمه. لدى الرأي العام الغربي إحساس مماثل باليأس، يتمايز ببنائه على تصورات تبرر اليأس منا جملة وتفصيلاً، مع وجود شرائح متعاطفة إنسانياً هنا وهناك، من دون أن تكون لها القدرة على التأثير سياسياً. وكلما صرخنا أعلى من هول الوحشية المستجدة ازدادت الهوة بين الواقع وعدم الاكتراث به، ما يعمّق الإحساس باللاجدوى على الطرفين، أحدهما مبني على ألا جدوى تُرتجى منا!
نحن نبتعد، في التصورات عنا، لنصبح أكثر إكزوتيكية. بمعنى أننا وفق تصورات الآخر نبتعد باضطراد عن كوننا ننتمي إلى الواقع كما يعرفه الآخر. لا يهم وفق هذه الترسيمة إن كنا جلادين أم ضحايا، ففي الحقل الإكزوتيكي ننتمي جميعاً إلى الأرومة الغرائبية ذاتها، وقد نستحق التعاطف أحياناً بوصفنا كائنات غريبة الأطوار، أو لأن قيم الغرب “لا قيمتنا البشرية” هي التي تفرض عليه عتبة من التعاطف الإنساني.
لا شك في أنه تحدٍّ غريب ألاّ يكون إثبات الجرائم المرتكبة في حقنا ذا قيمة، أمر يذكّر بما كان يفعله تلفزيون النظام وهو يروّج أن تسجيلات التظاهرات عبارة عن مجسمات صُنعت في محطات تلفزيونية معادية. بمعنى، تجريدنا من وجودنا الواقعي، ما يقتضي مرة أخرى إثبات وجودنا على شاكلة البشر جميعاً، وأننا لم نُخلق على هيئة ذبائح في هذا المسلخ الكبير.
الحياة