بعدها أطلق أوباما تصريحات عدة تضمنت إقراراً مباشراً بفشل الاستراتيجية الأميركية المعتمدة في سورية خلال السنوات الخمس الماضية، معلناً استعداده لمناقشة “كل الأفكار” المقترحة حول طبيعة الرد الأميركي على جرائم نظام بشار الأسد، المدعوم من موسكو وطهران، وتجاوزه مرة جديدة لكل “الخطوط الحمراء” الأميركية الشهيرة بعدم فعاليتها في زمن أوباما.
ومع احتدام الخلاف داخل إدارة أوباما بشأن الموقف من التطورات في سورية، وخصوصاً الدور الروسي، بين وزارتي الخارجية والدفاع، انحاز أوباما إلى كيري وفريق وزارة الخارجية، لناحية ضرورة التعاون مع الروس على كافة الصعد، ومنها التعاون العسكري والاستخباري، من أجل التوصل إلى وقف إطلاق النار والسير باتفاق هدنة الأسبوع الذي تضمنت بنوده تنسيقاً عسكرياً واستخبارياً أميركياً مع القوات الروسية بعد تثبيت وقف إطلاق النار. رفض البنتاغون هذه البنود، محذراً وزير الخارجية وفريق أوباما السياسي من مخاطر الثقة بالروس، خصوصاً في ما يتعلق بالقضايا العسكرية والمعلومات الاستخبارية.
فقد كان واضحاً للمسؤولين العسكريين الأميركيين أن المحاولات الدبلوماسية للتفاهم مع الروس وإقناعهم بممارسة الضغوط على نظام الأسد ستؤول جميعاً إلى الفشل، وأن تبادل المعلومات العسكرية بين الجيش الاميركي والجيش الروسي، الذي ما يزال العدو الأول للولايات المتحدة في العقيدة العسكرية الأميركية، مسألة تهدد الأمن القومي الأميركي. بناءً على ذلك، يتردد في أروقة الإدارة الأميركية أن وزارة الدفاع، بغطاء من الوزير أشتون كارتر شخصياً، رفضت تبادل معلومات أمنية واستخبارية حول سورية مع الإدارة الروسية، في نوع من “العصيان” السياسي لرغبات البيت الأبيض ووزارة الخارجية.
وتشير تسجيلات وزير الخارجية الأميركية، خلال اجتماعه مع مجموعة من المعارضين السوريين في الأمم المتحدة التي نشرتها صحيفة “نيويورك تايمز”، إلى أن الخلافات داخل إدارة أوباما ساهمت بشكل كبير في فشل جهوده الدبلوماسية، وأن مفاوضاته مع الروس لم تكن تحظى بدعم وغطاء من المؤسسة العسكرية الأميركية، وهو ما استغله المفاوض الروسي من أجل الإمعان في المناورة والتملص من الالتزامات حتى “الانبطاح” بحسب ما يراه معارضو سياسة التخلي الأميركي عن سورية.
ولا يخفى أن العلاقة بين البيت الأبيض والبنتاغون هي أيضاً لم تكن على خير ما يرام خلال السنوات الثماني الماضية، وبرز تباين في وجهات النظر في العديد من القضايا ذات الأبعاد الأمنية والعسكرية، منها ليبيا وسورية. وأفرزت التطورات الأخيرة معادلة جديدة بين أوباما والبنتاغون الذي يبدو أنه تسلم إدارة الملف السوري إلى حين وصول رئيس جديد إلى البيت الأبيض. وأصبح القرار الأميركي في الشأن السوري في عهدة العسكر ووزارة الدفاع بعد إعلان إفلاس كل محاولات كيري الدبلوماسية لوضع حد للحرب في سورية.
وباستثناء خيار فرض عقوبات أميركية وأوروبية إضافية على نظام الأسد وكذلك على حلفائه الروس والإيرانيين، وهو خيار يحبذه أوباما أكثر، لكن فعاليته ترتبط بمدى التزام وتجاوب الأوروبيين معه، فإنه لا يوجد أمام الرئيس الأميركي سوى القيام بعمل عسكري ما في سورية، بمعزل عن حجم هذا العمل وطبيعته ولائحة أهدافه. فالرهان على التوصل إلى اتفاق جديد مع الروس من أجل وقف إطلاق النار بات شبه مستحيل، والاستراتيجية الروسية في سورية أصبحت واضحة الأهداف بعد تملص موسكو من التزاماتها بالضغط على نظام الأسد والانهيار السريع لوقف إطلاق النار الذي استمر أسبوعاً واحداً مليئاً بالخروق الروسية والسورية النظامية، حشدت خلاله قوات النظام والمليشيات التابعة لإيران أكثر من عشرة آلاف عنصر من أجل الهجوم البري على مناطق سيطرة المعارضة السورية في حلب.
يدرك البيت الأبيض وكذلك جنرالات البنتاغون أن الهجوم على حلب محاولة من النظام، بدعم من الروس والإيرانيين، لفرض أمر واقع عسكري جديد، وتغيير الخريطة الديموغرافية والطائفية السورية من خلال تهجير مئات آلاف المواطنين السوريين من حلب وغيرها من المدن والمناطق المحاصرة في محيط دمشق وإدلب بما يخدم توسيع حدود “سورية المفيدة”. كما يدرك الأميركيون أن الروس اختاروا هذا التوقيت لقناعتهم بأن الرئيس الأميركي لن يلجأ إلى اتخاذ خيارات عسكرية حاسمة قبل أشهر قليلة من انتهاء ولايته، وفي ظل احتدام المعركة الانتخابية الرئاسية.
العربي الجديد – أحمد الأمين