الصور التي تأتي من حلب الشهباء تؤكد أن الإنسانية سقطت على أسوار المدنية، تحت أقدام تلك الطفلة المتشبثة بعلبة الحليب تحت الأنقاض، حيث إن صورتها تجرد العالم المتحضر الذي ينادي بالحقوق والديمقراطية والمساواة والعدالة الإنسانية؛ من ثوب النفاق والكذب.
حلب المدينة التي امتازت بالعديد من المزايا والخصوصية في تاريخ سوريا الحديث والقديم معا.. اليوم ما زالت تدفع ضريبة تلك الخصوصية.. معركة كسر العظم بين مختلف الأطراف المحلية والإقليمية والدولية ما زلت تدور رحاها على كامل مساحتها. التدمير والتهجير يكاد يطال المدينة كاملة بصورة ممنهجة ومدروسة مسبقا استناداً على طرق الصراع ومعطيات التصارع. وكما يبدو، فهي عصية على تقاسم النفوذ بين مختلف القوى، ما يؤكد لنا صحة النظرية المستندة على الخصوصية، والتغيير الديمغرافي الذي يتم الإشارة إليه بين الحين والآخر بصورة خجولة بات اليوم في أجلى صوره.
كل ذلك ليست بمحض الصدفة التاريخية أو أيديولوجيا أو طوارئ نتاج الأحداث التي دارت بصورة اعتباطية في أغلب الأحيان، إنما هي امتداد لجذور أيديولوجية وفكرية عميقة في التاريخ الغابر للمنطقة والمدينة بالتحديد، حيث إنها عاصمة الحمدانيين في إحدى فترات التاريخ كحقيقة تاريخية، الأمر الذي يفتق الشهية الشيعية من مختلف المشارب لإعادة المدينة المصلوبة سابقا ولاحقا وراهنا في العقلية الشيعية الملحمية أصلا، والأمر ذاته يعتبر من أقوى وسائل الحشد الطائفي بالمفهوم الشيعي الحديث، بعيدا كل البعد عن الأبعاد الأيديولوجية الشيعية الحمدانية إن جاز التعبير.
فالمشروع الشيعي الراهن يقوم على فرضية إعادة الحق وإنصاف المظالم، ما يبرر ويشرعن لنفسه كل السبل الممكنة للصراع، مثل التهجير، والقتل المنهحي، والتدمير، والنهب، وإعادة صياغة المجتمع لصالح الفئة المظلومة المغبونة، كما يروج لنفسه في الأدبيات الملحمية والمذهبية والتي تقدم الانتقام كخصلة حميدة!
فالسعي إلى التغيير الديمغرافي قائم بلا مواربة مهما تم التلاعب بمدلول المفاهيم، وإذا دعت الحاجة والظروف سوف يتم التسويق والأدلجة لها بصورة فائقة الوضوح والوقاحة؛ كونها تدعم توجه النظام السوري الحاكم الذي يمنح الغطاء القانوني لكافة المليشيات، سعيا لإحداث شروخات أعمق في النسيج الاجتماعي والفكري السوري، وتكاد تكون الوسيلة الوحيدة التي تمهد لوضع خارطة جغرافية جديدة للدولة السورية أرضا وشعبا. فالنظام ما زال يتخذ لنفسه دور المرشد والمحلل للطلاسم التي أوصلت الوضع السوري إلى ما هو عليه اليوم.
التقسيم وتوزيع مناطق النفوذ جاريان على قدم وساق، وبالتالي الريف الجنوبي للجماعات المصنفة بالمتشددة، والريف الشمالي الغربي للجماعات الأقل تشددا، والريف الشمالي الشرقي للجماعات المعتدلة، بالإضافة إلى تطعيمها بالتوجه الإثني وإعادة إحياء القومية التركمانية، والإبقاء على جزء من المنطقة الكردية، المتمثلة في منطقة عفرين، من المناطق السائبة أو المتنازع عليها – سمها ما شئت – فالهدف منها التناحر بين القوى من أجل بسط النفوذ.
وبرغم كل هذه الأسافين التي تدق في جسد الوحدة الوطنية التي يتم التباكي عليها وغير مأسوف عليها، ما زالت المدينة المنكوبة حلب تشكل في ذهنية النظام الكتلة الاجتماعية الصلبة في البنية السياسية للدولة السورية، لذلك لا بد من الإيعاز للمليشيات الطائفية المتحالفة معها بتدمير هذه المدينة عن بكرة أبيها، وإفراغها من سكانها أكثر من التدمير للبنية التحتية للمدينة الصناعية والتجارية الفارقة في الخريطة السورية. وبهذا يكون النظام قد حقق هدفه الأول بإيجاد نسيج اجتماعي مفكك على حدوده فيما إذا أصبح تفادي التقسيم أمرا محالا، أو باتت اللامركزية الإدارية أمرا واقعا لا مفر منه، تبعا للرغبات الإقليمية والدولية.
ففي حال التقسيم يضمن النظام التناحر والتحارب وانعدام فرص إنشاء كيان سياسي قابل للنمو والتطور، ما يمنح النظام فرصة فرض الوصاية أو التعاون من باب التشفي. وفي حال اللامركزية الإدارية، يضمن النظام مرة أخرى فرصة عدم تبلور توجهات سياسية واجتماعية تنافس الإدارة العلوية المدعومة والمتينة؛ تبعا لقنوات الدعم والإجماع الشعبي والفئوي للشيعة.
أما بالنسبة لحلفائه الطائفيين، فقد يكون هناك تباين وبون شاسع من حيث التفكير والتخطيط والاستراتيجية، وكذلك الأهداف البعيدة المدى، وهذا الأمر سوف يجلب أيضا المزيد من المعاناة للشعب بمختلف توجهاته؛ في البقعة الجغرافية من مساحة سوريا. فمن المؤكد أن بشار وطائفته ليسوا بعزيزين لدى حلفائه الطائفيين إلى هذا الحد من التضحية والفداء من أجله، ما يؤكد لنا أن هناك مشروعا طائفيا أبعد وأوسع بكثير من طموحات النظام السوري نفسه؛ الساعي أصلا للحفاظ على مكتسبات طائفية بكل الوسائل الشنيعة ليس إلا، مما ينبئ بأن القادم سوف لن يكون أقل مرارة وعنفا من الراهن، ما دام المشروع الشيعي الطائفي يمضي بلا معوقات تذكر صوب أهدافه غير المعلنة حتى اللحظة.
محمد رمضان_عربي21