تتابع الآلة العسكرية لجيش النظام الأسدي في سورية محاولة حصد ما تبقى في حلب (الشرقية)، من أرواح وأبنية، بإصرارها على انتهاج سياسة “الأرض المحروقة”، وفقاً لشعارها “الأسد أو نحرق البلد”، أو “الأسد أو لا أحد”، عبر حربٍ مفتوحةٍ بأسلحة التدمير الشامل البراميلية والصاروخية، وبمشاركةٍ روسيةٍ إيرانية، وبمظلة صمتٍ لا تبددها بعض تصريحات أميركية أو أوروبية، تندّد أو تهدّد بعواقب هذا القصف الهمجي على مدينةٍ في الشمال تارة، وفي الوسط تارة أخرى، أو في الجنوب تارة ثالثة.
وإذ يراهن المندّدون إعلامياً على تفهمّنا عجزهم عن أكثر من ذلك أمام خطةٍ روسية هدفها محاكاة تجربة غروزني، وتعويم نظام الأسد، فنحن، في الآن نفسه، نسأل أنفسنا للمرة المليون ربما: أما تعلمنا الدرس بعد؟
تسير الخطة إذن بإحكام شديد، وفقا لمساراتٍ وتصعيداتٍ مبرمجة، لاستنزاف وإنهاك ما تبقى من حاضنةٍ شعبيةٍ للثورة، عبر تصعيد العنف في مكان، وإلزام مناطق متفرقة للإذعان لما باتت تعرف بأنها “هدن محلية”، يستعيد عبرها النظام سيطرته إدارياً، ويعيد من خلالها هيكلة المناطق ديمغرافياً، مقدّماً للعالم المتفرج، أو اللامبالي، نموذجاً آخر للحل السياسي، بصيغته الاستسلامية أمام جيوش متكئةٍ على سلاح متطور، وسياسة تجويعٍ طالت حتى الحيوان والشجر إضافة إلى البشر.
في الغضون، وبينما نزيف الدم السوري يستمر، والدمار يحصل بأقسى صوره في حلب، يتحرك المبعوث الأممي، ستيفان دي مستورا، باتجاه دمشق، وتستضيف منسّقة العلاقات الخارجية الأوروبية، فريدريكا موغريني، وفود المعارضة السورية في بروكسل، للحديث عن مبادرةٍ سياسيةٍ، من شأنها، حسب قراءة النظام، أن تعيد الأمل له باستعادة سورية “الأسد”، حيث تتجاوز المبادرة الحديث عن مصيره، إلى الحديث عن صلاحياته، وفق طرح النظام الرئاسي البرلماني بديلاً للنظام الحالي، وحيث يصبح الحديث عن رحيل الأسد مغيباً، أو مكتوماً.
هكذا، وبينما يتصاعد القصف الوحشي على حلب، تقوم الآلة الدبلوماسية بنسج خيوط النهاية في سيناريو واضح بكل تفاصيله لديها، وتنتقل إلى ما بعد الحرب مباشرةً، باحثةً عن تفاصيل تقاسم السلطات، وتوزيع أدوار ما بعد الهدوء الذي جاءت به عاصفة الحرب الهوجاء على الشعب السوري، إضافة إلى الحديث عن الإعمار.
على ذلك، يبدو أن موغريني ودي مستورا، ومن خلفهما المجتمع الدولي، يعرفون مواقيت الحرب، وإلى أين سيذهب النظام، أو يصل، ومعه الآلة الحربية الروسية، من خلالها، حيث العدوان على حلب، على الرغم من بشاعته ونوعية أهدافه ذات الطبيعة الخدمية، كالمشافي والمدارس، ظل يترافق مع صمتٍ دوليِّ مريب، هو أشبه بموافقة عليه، أكثر مما هو عجز هذه الدول عن أداء دورها في الحفاظ على الأمن والسلم العالميين، أو في ادّعائها المعروف بمساندة الثورة السورية، أو طلب السوريين على الحرية والتخلص من الاستبداد.
ستتتابع المعركة على حلب، على الأرجح، على الرغم من احتجاجات الإدارة الأميركية والدول الأوروبية، وهي عموماً احتجاجات خجولة، ولا تهدف إلا إلى ستر عورة هذه الدول، ومداراة موقفها اللاأخلاقي وغير المفهوم.
تتعلق المسألة، الآن، بمدى صمود المقاتلين في حلب، ومدى مضي روسيا في خطتها دعم النظام لإسقاط حلب، ومدى جدّية الضغوط الدولية في هذا الاتجاه. هذا أولاً. ثانياً، تتعلق المسألة بمدى صلابة المعارضة السورية، السياسية والعسكرية، وخصوصاً قدرتهما على مواجهة هذه الهجمة الشرسة، ليس فقط في البيانات والمناشدات، وهي حال المعارضة اليوم، وإنما في تجسيد ذلك على الأرض، في وحدة الموقف السياسي، ووحدة الجهد العسكري، وفي تقديم خطاباتٍ سياسيةٍ واضحةٍ، تركّز على طلب السوريين حقوقهم المشروعة، في الحرية والكرامة والمواطنة، وتضع حداً للاضطرابات والتباينات والتشوهات التي أحاقت بالثورة السورية، نتيجة هيمنة بعض الجماعات ذات الأيديولوجية والأجندة الطائفية والدينية المتعصبة التي ترفض الآخر، ولا تقبل التعدّدية والتنوع، وتحاول صوغ مستقبل سورية وفقا لهواها ومقاييسها.
أخيراً، بوضع حد لمعركة حلب، بهذا الشكل أو ذاك، لن يكون الأمر قد انتهى، إذ ستستمر الثورة السورية، وسيبقى النظام موجودا بسبب دعمه من روسيا وإيران، أي أن الواقع تغيّر كثيراً. كذلك لن يسمح المجتمع الدولي، على علاته، باستمرار سورية الأسد، على النحو الذي كانت عليه، أي أننا سنكون إزاء تسويةٍ ما، وهذا ما تحاوله موغريني والمبعوث الأممي، وكذا تلميحات المسؤولين الأميركيين والأوروبيين. يتعلق السؤال، إذن، بالمعارضة ومدى أهليتها، أو مدى إعدادها ذاتها لمواجهة هذا الاستحقاق، وهل هي حقاً في أوضاعها الراهنة على قدر هذه المهمة؟ طبعاً أشك في ذلك. لذا، تقف المعارضة أمام لحظةٍ تاريخية، فإما تعيد ترتيب أحوالها وبناها، وتعيد صوغ خطاباتها بطريقةٍ تتقاطع مع القيم الدولية والإنسانية، أو أن الزمن سيتجاوزها، وستنشأ حقائق جديدة.
العربي الجديد – سميرة المسالمة