خمس سنوات دموية، دفع فيها المدنيون ومدنهم الثمن الأشد كلفة. لم نسمع شيئاً بعد عن الديمقراطية الموعودة وخطط إعادة بناء سورية الجديدة، وإشارة الانطلاق نحو المرحلة الانتقالية. كل ما وصلنا إليه هو تفاهم أميركي روسي، لا نعرف حدوده القانونية ومشروعيته الدولية ومصداقيته السياسية، يعلن خطة وقف للنار على جبهات القتال، وتحييد بعضها.
تركيا التي انتقدت هدنة فبراير/ شباط المنصرم التي أطلقت يد روسيا في سورية، ما دفع وزير خارجيتها، سيرغي لافروف، إلى اتهامها بتقويض الهدنة، وطاردها على حدودها السورية، أشهراً طويلة، كابوس “داعش”، وشعرت “بالخطر الكردي”، يقترب أكثر فأكثر من الجوار السوري، وأفاقت، وفي حضنها ثلاثة ملايين وافد سوري، وصلت أعباء استضافتهم إلى عشرة مليارات دولار، وعانت، أخيراً، من التصعيد الواسع في عمليات حزب العمال الكردستاني في جنوب شرقها، تركيا هذه أعلنت تأييدها العلني للتفاهم الأميركي الروسي الذي تكشف أنه يشمل أكثر من مسألة وقف إطلاق النار، وإعلان الهدنة بين المتقاتلين.
وعلى الرغم من معرفتها أن اتفاق الهدنة يهيئ الظروف للحل السياسي الذي يحمي مصالح من يعد الاتفاق ويشرف على تنفيذه، قبل مصالح الحلفاء والشركاء، وأن مواد التفاهم لا تسري على تنظيمي داعش والقاعدة في سورية، وأن انتهاكات للهدنة سيتم التعامل معها بالتنسيق العسكري المباشر بين واشنطن وموسكو، وأن كلام لافروف نفسه، المختلف تماماً هذه المرة، وهو يتحدث عن تحولٍ في مواقف القيادات التركية حيال بشار الأسد، حيث لم تعد توجه الإنذارات والتحذيرات المطالبة برحيله، على الرغم من ذلك، ترى تركيا في الاتفاق فرصةً لوضع حدّ للعنف الذي يعاني منه الشعب السوري منذ فترة طويلة، وأن هذه الهدنة ستكون أكثر فعالية، ولها الأثر في تهيئة الظروف الملائمة للانتقال إلى الحلّ السياسي، وأن التفاهم الأميركي الروسي سيكون فرصةً لتكريس قبول خطي حلب والموصل درعي الدفاع الأول لتركيا من جهة حدودها مع سورية والعراق، ومنع تنامي أي خطر على أمنها القومي على مقربة من الخطين.
وأن الاتفاقية تتضمن احترام وحدة سورية وتماسكها، لمنع أي كيان قومي أو إيديولوجي يسعى إلى تغيير الحدود الجغرافية أو المعايير الديمغرافية للبلاد، وأن وقف القتال وتقديم المساعدات في حلب يمثلان أهمية كبيرة بالنسبة لها، وأنها ستدعم جهود ضمان صمود الهدنة، وأن الاتفاق قد يتحول خريطة طريق باتجاه وقف الأعمال القتالية، وسيسمح باستئناف المحادثات السياسية بشأن مرحلة انتقالية في سورية.
يقدّم المقرّبون إلى حكومة “العدالة والتنمية” في تركيا المشهد اليوم على أن القيادات السياسية تعلمت من دروس فشل اتفاقية وقف النار والهدنة في فبراير، وأنها نجحت في خمسة أشهر فاصلة في تغيير سياستها الروسية والسورية، والكثير من تحالفاتها المحلية هناك، والخروج من وضعية اخسر اخسر، على الرغم من أنها رفعت مع منظر سياستها السابق أحمد داود أوغلو شعار اربح اربح. وقد تمكنت أنقرة، بدعم مثل هذه الاتفاقية، من قطع الطريق على حلم حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي، بالتنسيق مع واشنطن ودعم روسي، لناحية التمدّد عبر جرابلس ومنبج ثم الباب وتل رفعت، باتجاه إنشاء ممرّ واصل بين مقاطعتي كوباني وعفرين الكرديتين، فيما يكتفي أنصار زعيم الاتحاد الديمقراطي (الكردي)، صالح مسلم، اليوم برفع الأعلام الأميركية على مداخل منبج لحمايتها من السقوط بيد الجيش السوري الحر والقوات التركية المساندة، والترديد أن الدخول التركي إلى جرابلس يشبه دخول مستنقعٍ يصعب الخروج منه.
ألا يزعج تركيا إعلان وزيري الخارجية، الأميركي جون كيري والروسي سيرغي لافروف، التوصل إلى خطةٍ لإرساء هدنة، سيسفر صمودها عن تعاون عسكري بين البلدين؟ ومن يضمن لها أن حلفاءها المحليين في سورية لن يتحولوا إلى أهداف أميركية، بعدما كانوا حتى الأمس القريب أهدافاً روسية؟ أين عثرت القيادة التركية في بنود الاتفاقية على ما يضمن شروطها ومطالبها المعروفة، لناحية وجود خطةٍ واضحةٍ لتغيير النظام؟ وهل تشمل مواد الاتفاقية مطلب إزاحة الطرف الكردي الذي يقلق تركيا من طريق الحل المرتبط بالكيان الكردي على حدودها الجنوبية؟
يصوّر بعضهم التفاهم بين واشنطن وموسكو أنه قد يستهدف سياسة تركيا السورية، وأن تقع أنقرة في مصيدة ما نجحت في منعه سنوات طويلة، أي استهداف حلفائها المحليين عبر شن الضربات الجوية ضدهم تحت غطاء القضاء على الجماعات المتطرفة، وأن كل ما حصلت عليه كان هدنة عيد الأضحى، وتعهدات فتح الممر أمام إدخال المساعدات الغذائية إلى حلب.
ونكتشف اليوم أن ما قيل وكتب عن اتصالاتٍ بين أنقرة والنظام السوري كان هدفها، إذا ما تمت فعلاً، التمهيد لإعلان اتفاقية وقف النار والهدنة في سورية لتكون مقدمةً لتطبيق تفاصيل خطة التفاهم الأميركي الروسي. فهل فعلت ذلك أنقرة فعلاً، وهل قبلت مواد الاتفاقية وتفاصيلها التي ترفض واشنطن الكشف عنها، وتتضمن كثيراً من الغموض والتأويل والتفسيرات المتناقضة؟
هناك من يردّد أن التفاهم الأميركي الروسي يعني، بشكل أو بآخر، سقوط مشروع الدولة الإسلامية السنية التوجه، الإخوانية الميول في سورية، وأن قيام نظام إسلامي في سورية سيصبح ضرباً من الاستحالة، فهل تزعج مثل هذه التحليلات أنقرة أم لا، أم هي متمسكة بنظامٍ علمانيٍّ تريده نموذجاً أفضل لسورية المستقبل، حيث فشلت، في ذلك، مع “الإخوان المسلمين” في مصر، أم هي تريد التريث لانجلاء المشهد السياسي والأمني في سورية، وعندها تقول ما عندها؟
في الطرف المقابل، هناك من يرى أن تركيا اليوم بين خيار ما تسمى واقعية الصفقة الأميركية – الروسية ومحاولة تغيير الأوضاع الميدانية لصالحها، فهي تعرف أن مشروع وقف النار قد لا يدوم، لأنه لا ضمانات واضحة في حماية تنفيذ الخطة، وكذلك الأمر بالنسبة لموضوع الانتقال إلى حكومة وحدة وطنية بعد الأسد. لذلك، نراها تتمسك بخطة تحويل بعض المناطق إلى مناطق آمنة، وطروحات إنشاء مناطق حظر الطيران في شمال سورية.
وإن تفاهم أنقرة وموسكو بشأن سبل التوصل، في أسرع وقت ممكن، إلى وقفٍ لإطلاق النار في مدينة حلب، ومسارعة تركيا إلى إعلان أن عمليةً بريةً تقودها يمكن أن تنجح في طرد تنظيم داعش من مدينة الرقة، إذا حصلت على دعم جوي من التحالف الدولي، يعكس حقيقة رغبة الرئيس رجب طيب أردوغان في التمسّك بإقحام الأكراد المحسوبين على صالح مسلم في خانة الإرهاب، متحدّياً الموقف الأميركي الذي يرفض المنطق التركي، ويعتبر هذه المجموعات شريكاً في الحرب على “داعش” في سورية وفي العراق.
بدعمها الاتفاق، تكون تركيا تدافع ربما عن إنجازات “درع الفرات”، وفتح الطريق أمام تمدّد حليفها الجيش السوري الحر في شمال سورية، وحماية حصته في المعادلات السياسية والأمنية المقبلة في خارطة سورية الجديدة، لكن أنقرة ملزمة بالرد على تساؤلاتٍ تكاد تتحول إلى انتقاداتٍ بينها كيف تدعم تركيا اتفاقاً لا تعرف مضمونه، ويرفض حليفها الأميركي الكشف عن بنوده، تحت مقولةٍ لن يصدّقها الأطفال، حتى في تجنب الكشف عن الوثائق أمام مجلس الأمن، حتى لا يُساء فهمها، وتضع المعارضة السورية في خطر! ألا ترى في ذلك استهدافاً لمصداقيتها ودورها في سورية، خصوصاً إذا ما بدا بعضهم يردّد أن أنقرة لعبت دوراً في إخراج التفاهم، ولا تريد البوح بذلك؟ ثم كيف سترد على ما يقال حول وجود مواد تتحدّث عن المحاصصة الطائفية، وإنهاء دور “أصدقاء الشعب السوري”، وفرض الوصاية الروسية على سورية بغطاء أممي؟ وخصوصا أن بعضهم بدأ يتساءل ما إذا كانت تركيا أطلقت يد كيري للمساومة على كل شيء، وقلصت في خطة “درع الفرات”، وحولتها إلى “درع الساجور”، ونسيان وحدات صالح مسلم في منبج تحت حماية العلم الأميركي؟
ويقول الناطق باسم الرئاسة التركية، إبراهيم كالن، إن أنقرة تدعم اتفاق وقف إطلاق النار. هذا من حيث المبدأ. لكن، للأسف، لدينا مخاوف بالغة بشأن استمراريته مع مواصلة المعارك التي تعرقل وصول المساعدات الإنسانية إلى المدنيين، واستئناف مباحثات السلام، لكن لافروف ينفي وجود اختلافات بين موسكو وأنقرة حول تصنيف “الإرهابيين” في سورية، ويؤكد أنهما تشتركان في الموقف نفسه بشأن ضرورة انسحاب قوات المعارضة السورية من المناطق الخاضعة لسيطرة الإرهابيين.
بدعمها الاتفاق، قد تكون تركيا دخلت في ورطة تقديم الكثير لموسكو ولواشنطن، وحتى لبشار الاسد نفسه، من دون أن تدري، فهل علينا أن نقول، ونفترض أنها لم تحسب ذلك جيدا؟ فهناك حتماً ما هو أهم وأبعد من مسألة إيقاف النار لإيصال المساعدات إلى المحتاجين.
لا يشير الاتفاق إلى خريطة طريق مفصلة حول المسألة السورية، ويستثني دور المعارضة، بشكل أساسي، مع تهميشها في معظم الفقرات عند التطرّق إليها، بل هو يفتح الطريق أمام تعاون عسكري روسي أميركي للقضاء عليها بكل فصائلها، ويعطي روسيا المشروعية التي كانت تبحث عنها لاستهداف هذه القوى، بمباركةٍ أميركيةٍ، وتحت شعار محاربة مجموعاتٍ تم توصيفها إرهابية لا يمكن تبنيه، وترويجه والدفاع عنه بمثل هذه البساطة. هل هناك ما لا نعرفه في أسباب تأييد أنقرة التفاهم الأميركي الروسي؟.
العربي الجديد – سمير صالخة