من الجميل أن نختزل صورة دمشق في باب توما والقيمرية والياسمين الذي يعرّش على الجدران، لكن هل يكفي رؤيتها من خلال هذه الصورة وحسب؟ بالتأكيد لا فهناك الوجه الآخر، أو ربمّا الوجه الأساسي للعاصمة، والتي محت المعارك وتبعاتها معالمها الرئيسية، لتتذيّل قائمة أسوأ بقاع الأرض من ناحية جودة الحياة وذلك للعام الثاني على التوالي، ولتقبع في المركز الثاني قبل الأخير خلف العاصمة العراقية بغداد والتي صُنّفت على أنها أسوأ مدن العالم وفق قائمة شركة “ميرسير للاستشارات والمدن”، التي قامت بمسحٍ شمل 231 مدينة.
وفي هذا التحقيق تناقش “صدى الشام” أبرز الأسباب التي حوّلت دمشق التي كانت “أجمل المدن” في عيون كثيرٍ من السوريين إلى مكان لا يُمكن العيش فيه، لنرى مدى دور المعايير التي تم اعتمادها عالمياً للحكم على هذه المدينة بالسوء.
الوضع الأمني
مع أنها لا تتعرّض للقصف اليومي بالطيران الحربي والبراميل المتفجّرة كون نظام الأسد يسيطر عليها، فقد تحوّلت العاصمة دمشق إلى واحدة من أكثر من المدن خطراً على السكّان فهناك هاجس أمني من نوعٍ آخر له علاقة بالخوف المستمر من الاعتقال والاختطاف والسوق للخدمة العسكرية وارتفاع مستوى الجريمة.
يقول أبو عبد الله، وهو رجل طاعن في السن من سكّان حي مساكن برزة لـ “صدى الشام”: “إن الأمان انعدم بشكلٍ كلّي من منطقته”، ويضيف “صحيح أننا لسنا في منطقة ساخنة لكن هناك تبعات سيئة جداً للعيش هنا، أبرزها عدم قدرتنا على التحرّك ضمن الحي بعد التاسعة ليلاً، إضافةً إلى الخوف من هاجس اندلاع هجوم على المدينة إضافةً لتساقط قذائف الهاون بشكلٍ مستمر على العاصمة”.
ويبيّن أبو عبد الله أن بعض أحياء دمشق شهدت حالات اختطاف بهدف طلب الفدية، وعمليات وسلب ونهب واسعة، الأمر الذي أدّى لتدهور الوضع الأمني.
من جهته يحدّثنا ابنه الشاب عبد الله، أنه في أحيانٍ كثيرة يضطر للبقاء في المنزل وعدم الذهاب لإنجاز أعماله بسبب حالات الاعتقالات بهدف السوق للاحتياط، ويقول: “لست متفاجئاً من أننا نعيش في أسوأ مدن العالم، فعندما أمشي في الشارع أكون قلقاً من اعتقالي أو سحبي إلى الخدمة الاحتياطية من قبل أي حاجز”، كما أن مستوى العنف عند الحواجز ارتفع بشكلٍ كبير عمّا كان عليه من قبل، ما جعل كثير من الشباب يفكّرون بالهروب خارج البلاد.
المستوى الاقتصادي
“دخْل المواطن السوري يكفيه فقط لـ 10% من نفقاته، وعليه أن يتدبّر أمره”، بهذه الكلمات يُلخّص الرئيس السابق لـ “جمعية حماية المستهلك” غير الرسمية واقع المعيشة في سوريا خلال حديثٍ له قبل أشهر، موضحاً أن على المواطن السوري أن يبحث عن مصادر دخل بديلة ليتمكّن من العيش.
وانخفض المستوى الاقتصادي للسوريين الذين يعيشون في دمشق العاصمة إلى الحضيض، وهو ما كان أحد عوامل ارتفاع مستوى الجريمة وانعدام الأمان.
رائد 34 عاماً، موظف في أحد مراكز جباية المياه بالعاصمة دمشق، ويعمل سائق تاكسي مساءً، لكن هذا الجهد المضاعف لم يؤدِ إلى تحسين مستوى عائلته الاقتصادي.
يقول رائد لـ “صدى الشام”: “بمنتهى البساطة فإن راتبي 40 ألف ليرة ومصاريف عائلتي أكثر من 200 ألف، لذلك فإنني مهما فعلت أو بذلت جهوداً إضافية فلن أتمكّن من تحصيل أدنى متطلّبات الحياة لأسرتي”.
ويضيف: “الجهة التي تعطيني 40 ألف ليرة شهرياً لا تعلم أن هذا المبلغ لا يكاد يكفي لإيجار المنزل الذي أعيش فيه من دون فواتير المياه والكهرباء”، متسائلاً “كيف سآكل وأشرب وألبس وأربي أولادي وأؤمّن بقيّة مستلزمات الحياة الأخرى”؟.
ويوضّح رائد أن عمله الآخر سدَّ جزءاً من العجز في ميزانيته الأسرية لكنّه حتماً لم يسد هذا العجز كاملاً، شارحاً أنه يتدبّر أمرة من خلال تأمين عمل لزوجته، واستلام حوالات شهرية من شقيقه المقيم في البحرين.
يشرح خبير اقتصاديٌّ يعيش بدمشق أنه لا يوجد حالياً أي مواطن في العاصمة يعتمد على راتبه الأساسي ليتمكّن من الإنفاق، ويوضح الخبير الذي رفض الكشف عن هويته لـ “صدى الشام”: “أن الحالة الاقتصادية لسكّان العاصمة اليوم يُرثى لها بكل معنى الكلمة، وسط زيادة الفجوة بين الدخل والإنفاق وكثرة الضرائب التي تفرضها حكومة النظام على المدنيين وارتفاع مستوى التضخّم”.
ويضيف أن بعض السوريين الحاصلين على درجات علمية يعملون مقابل دولارٍ واحدٍ يومياً، ومن المتوقّع أن ينخفض هذا الرقم أكثر مع مرور الوقت، مبيّناً أن معظم الناس اليوم يعتمدون إمّا على زيادة ساعات العمل بشكلٍ كبير وتشغيل جميع أفراد الأسرة بما فيهم النساء والأطفال، أو بيع المقتنيات الشخصية، أو الحصول على الحوالات الخارجية من المغتربين ليتمكّنوا من العيش.
الصحة
تدهور القطاع الصحي بشكلٍ كبير، وبات الحصول على طبابة وأدوية أمراً متاحاً لشريحة ضيّقة من الميسورين اقتصادياً في العاصمة.
وارتباطاً للمستوى الاقتصادي بالمستوى الطبي، فإن المعاينات الطبية عند الأطباء الخصوصيين ولدى المستشفيات الخاصة ارتفعت أكثر من عشرة أضعاف، وقابلها ارتفاع مماثل في العمليات الجراحية وثمن الأدوية وأجور العمليات الجراحية، وحتّى علاج الأسنان.
تكلّفت أم رياض بأكثر من 300 ألف ليرة بعد إجرائها عملية إزالة “الزائدة الدودية” في مشفى خاص بمنطقة مساكن برزة، وتقول هذه المرأة الستينية لـ “صدى الشام”: “إن العملية الجراحية بسيطة جداً ولا تحتاج إلى هذا المبلغ الكبير”، موضحةً أنّها تخوّفت من إجرائها في مستشفى عمومي بسبب الأخطاء الطبية وعدم وجود كادر طبي جيّد إضافةً للعناية السيئة فيها، موضحةً أن إجرة هذه العملية كانت لا تتعدّى 35 ألف ليرة في أحسن الأحوال.
وعلى الرغم من أن أبا الطب “أبقراط” الذي سُمي قَسم الأطباء على اسمه يقول: “إن الحرب هي المدرسة الحقيقية للأطباء”، إلّا أن المعارك في سوريا لفظت الكثير من الأطباء السوريين إلى دول الشتات، فقبل اندلاع الثورة كان هناك 31 ألف طبيب في سوريا، بحسب تقديرات وزارة الصحة التابعة لحكومة النظام، لكن اليوم فرَّ أكثر من نصفهم خارج البلاد، فيما اعتقل وقتل العشرات منهم.
وتشير إحصاءات طبية غير رسمية، إلى أن نحو 60% من المستشفيات خارج الخدمة أو بالكاد تعمل، بينما انخفض الإنتاج المحلي للأدوية بنسبة 70% بعد تدمير 25 معملاً للأدوية، وانخفض عدد العاملين في المجال الصحي إلى 45% منذ عام 2012.
ويشتكي أطبّاء مقيمون في دمشق من نقص المعدّات بسبب العقوبات الاقتصادية، والتي أدّت للاستعاضة بمعدّات وأدوية غير ذات جودة من دول “البريكس” ما أثّر بشكلٍ كبير على الجانب الطبّي، فيما تحوّلت المشافي الحكومية إلى ما يصطلح المواطنون على تسميته بـ”المسالخ” نتيجة زيادة عدد المحتاجين للخدمات الطبية والجرحى مقابل نقص الأدوية والمعدّات.
التعليم
تردّى وضع التعليم بمراحله الأساسية والجامعية، وباتت أنظار الطلاب السوريين تحلم بالدراسة خارج البلاد، ويعود ذلك لجملة أسبابٍ يأتي على رأسها الهجرة الكبيرة للمدرّسين الجامعيين الأكْفاء، وصعود ذوي الخبرات المحدودة ليحلوا مكانهم، فضلاً عن تحوّل جامعات دمشق إلى ما يشبه ثكنات أمنية للنظام، ويضاف إليه القرار الأخير بتقسيم جامعة دمشق إلى كليات أدبية وعلمية بسبب عدم قدرة إدارة الجامعة على استيعاب الأعداد الكبيرة للطلاب القادمين من جامعاتٍ أخرى.
يقول أمجد وهو طالب في قسم علم الاجتماع في كلية الآداب بجامعة دمشق لـ “صدى الشام”: “إن واقع الجامعات في سوريا تدهور خلال السنوات الماضية”، ويضيف أن المناهج الدراسية غير مناسبة ولا تقدّم أية فائدة علمية للطالب، إضافةً لانتشار حالات الوصول إلى الجامعات عن طريق الغش في الثانوية، وازدياد قرارات الترفّع الإدارية والدورات التكميلية، موضحاً أن كل هذه العوامل أدّت لتدهور الشهادة السورية وتراجع تصنيفها عالمياً.
من جهتها توضّح غصون، وهي طالبة في قسم اللغة الإنكليزية، أن وضع جامعة دمشق بات سيئاً للغاية، بسبب ازدياد أعداد الطلاب والذي أدّى لعدم القدرة على إيصال المعلومات وانتشار حالة فوضى في المناهج الدراسية.
وتضيف: “كُنّا نتقدّم للامتحانات في ممرّات الجامعة التي تشهد حركة للطلاب والمراجعين، وسط البرد الشديد بسبب عدم توفّر قاعة لنتقدم للامتحانات بها” مضيفةً أنها لن تتمكّن من تحصيل وظيفة خارج سوريا من خلال شهادة جامعة دمشق التي تهاوت مكانتها بشكلٍ كبير مؤخراً.
وازداد عدد طلاب جامعة دمشق بشكل كبير بسبب انتقال طلاب جامعة حلب، وجامعة حلب فرع إدلب، وجامعة دمشق فرع السويداء، وجامعة الفرات وحمص، جميعها إلى العاصمة دمشق ما أحدث ضغطاً على المرافق الأساسية للجامعة وسكنها الطلابي وتحصيلها الدراسي.
وليس بعيداً عن وضع جامعة دمشق، كانت مدارسها أسوأ حالاً، وذلك بسبب الاكتظاظ السكّاني الكبير في العاصمة من جهة، وتحوّل عدد كبير من المدارس إلى مراكز إيواء من جهةٍ أخرى، وهو الأمر الذي أدّى لتكدّس أكثر من 70 طالبة / طالبٍ في صفٍّ دراسي واحد، بعدما كان الرقم لا يتجاوز 35 في أحسن الأحوال، أي أن الرقم أصبح حدَّ الضعف.
ترفيه غائب
مع مرور الوقت راحت تغيب مظاهر الترفيه والترويح عن النفس في سوريا نتيجة تركيز الناس على قوت يومهم وتحصيل معيشتهم ولا شيء آخر، ونتيجة ذلك بات ارتياد أماكن الترفيه حلماً للسواد الأعظم من السوريين، وحكراً على فئة معيّنة تمتلك القدرة الاقتصادية والتي تمكّنت من تحصيل ثروتها من خلال الانتفاع من مجريات الحرب وتبعاتها.
تقول امرأة مقيمة في العاصمة لـ “صدى الشام”: “لا مجال للترفيه بالنسبة للسوريين حالياً لأنهم لا يتمكّنون من تأمين احتياجاتهم الأساسية حتى يقوموا بعمل سياحة وترفيه”.
لكن بعض السوريين ممن “يرضون بالقليل” يقومون بنزهات خجولة إلى مطعمٍ في منطقة الربوة أو حديقة تشرين وغيرها، إلّا أن هذا المستوى الخجول والذي قد يتمثل بـ “سيران” يحدث مرة واحدة شهرياً أصبح أيضاً حلماً لدى الكثيرين، فإلى إين سيصل ضيق الخيارات بسكان العاصمة؟
صدى الشام