زمان الوصل / عزت السيد أحمد
يشغلنا جميعاً موضوع آفاق التصعيد بين إسرائيل وحزب الله، وعندما أقول حزب الله فأنا أعني أنَّ حزب الله هو سوريا وإيران أيضاً. والواقع هو كذۤلكَ تماماً. ولذۤلك فإنَّ الحديث عن التَّصعيد بَيْنَ حزب الله وإسرائيل فالمقصود التصعيد بَيْنَ محور إسرائيل ودمشق طهران حزب الله.
الحرب علىٰ إسرائيل هي المخرج الأخير. أي المخرج الأخير للنظام من الأزمة التي هو فيها. المخرج للنِّظام السُّوري تحديداً، وليس لحزب الله وإيران فهما أطراف محورٍ مساعدٍ وليسا في مأزق النِّظام السُّوري. ولٰكنَّ المعادلة القائمة بأنَّ انكسار أو زوال أيِّ طرفٍ من أطرف هٰذا المحور يعني زوال المحور كلِّه وانتهائه تجعل من دخول حزب الله وإيران علىٰ الخط مسألةً مصيريَّةً لهما أيضاً مثلما هي مصيريَّة للنِّظام تماماً.
خيار الحرب علىٰ إسرائيل هو المخرج الأخير لأنَّهُ الورقة الأخيرة التي يمكن أن يلعب بها النِّظام للبقاء علىٰ رأس السلطة. الورقة الأخيرة لأنَّها الورقة التي لا يسمح باستخدامها، وأن يصل التَّصعيد إلىٰ هٰذه النُّقطة بَيْنَ حزب الله والنِّظام وإسرائيل فهذا يعني أنَّ الأمور وصلت إلىٰ الخيار الأخير، الورقة الأخيرة، مرحلة حرق المنطقة علىٰ أمل البقاء في ظلِّ هٰذا الاحتراق أو حرق المنطقة قبل المغادرة؛ خيار شمشون الذي أعلنه النِّظام منذ اللحظة الأولىٰ: الأسد أو لا أحد، الأسد أو نحرق البلد، إذا سقط الأسد احترقت المنطقة.
تعليقاً علىٰ التَّصعيد الذي حصل صباح اليوم 28/1/2015م بَيْنَ حزب الله وإسرائيل، إذ استهدف حزب الله دورية إسرائيليَّة في مزارع شبعا وقتل وجرح طاقم الدوريَّة المؤلف من تسعة أشخاص، تعليقاً علىٰ ذۤلكَ قال الحزبلاتي فيصل عبد الساتر صباح اليوم علىٰ الجزيرة بوضوح لا لبس فيه: «عندما تصل الأمور إلىٰ نقطة إما نحن أو العدو فنحن بالتأكيد… حزب الله لن يبقى ساكتاً».
هٰذا الكلام واضحٌ صريحٌ لا لبس فيه، ويطرح علامات استفهامٍ كثيرةً وخطيرةً، بل خطيرة جدًّا. فماذا يعني بقوله: عندما تصل الأمور إلىٰ نقطة إما نحن أو العدو؟ متى كان العدو شريكاً يتقاسم معك الوجود؟ وهل العلاقة مع العدو علاقة تصالحيَّةٌ تشاركيَّةٌ إلا في حال وصول الأمور إلىٰ نقطة أنا أو العدو؟ هٰذا ليس عدوًّا إذن.
لا أريد التَّوغُّل في أبعاد ذۤلكَ، والمعطيات الراهنة حول الموضوع. الذي يعنيني هنا هو أنَّ الأمور فيما يبدو جليًّا في حالة الشعور بالنزع الأخير. وضع النِّظام الآن في أحرج ما يمكن أن يكون وهو إمَّا علىٰ حافة الانهيار أو أنَّه انهار وانتهى تقريباً. لأنَّ إشعال حربٍ مع إسرائيل وإحراق المنطقة لن يأتي بأيِّ فائدةٍ للنِّظام، بل سيأتي عليه بالوبال أكثر مما يتخيل، بل لا يتخيل ما يمكن أن يأتيه من وبال جرَّاء احتراق المنطقة وخاصَّةً مع إسرائيل، فقط من الجبهة الداخليَّة وليس من الخارج. وإذا كان يتوهَّم غير ذۤلكَ فهو يواصل مسيرته في الغباء… منذ بداية الثورة وهو يتفنن في الغباء والخيارات الأكثر غباء فيما يحقق مصالحه هو لا مصالح الثورة.
المعطيات الواقعية تقول إنَّ النِّظام يوشك أن يصرخ ويفلت أسنانه. ولذۤلك لم تكن التَّطورات الأخيرة عبثيَّة أبداً. لنعد إلىٰ الاستهداف الإسرائيلي لعناصر حزب الله في القنيطرة قبل أيام. هي نقطة البداية الحقيقية. في تلك الحادثة تاهت الألسن في تحليلها، ووصلت أبعاداً تخيلية مضحكة أحياناً، حَتَّىٰ نفى بعضهم الضَّربة، وبعضهم قال بأنَّ القتلى قتلوا في القلمون وسحب النمل جثثهم إلىٰ القنيطرة وهلم جرًّا.
ما حدث في القنيطرة هو أنَّ النِّظام أعلن إفلاسه ولم يبق أمامه إلا الورقة الأخيرة التي يحاول أن يحقِّق منها أكثر من هدف. حرَّك النِّظام خلية من خلايا حزب الله بقيادة ضابط إيراني كبير (الدادي) لتنفيذ عملية في العمق الإسرائيلي، وهٰذا مستبعد، أو لإطلاق صواريخ علىٰ إسرائيل. هٰذه العملية رسالة لإسرائيل مضمونها إنذارٌ يتضمَّن أنَّ النِّظام فقد السيطرة علىٰ الأرض وعلىٰ إسرائيل أن تتصرف. من جهةٍ ثانيةٍ فإنَّ هٰذه العمليَّة ستجعل إسرائيل أمام خيارين إمَّا أن تتهم كتائب الثَّورة، أو أن تتهم النِّظام، وتردَّ علىٰ أيِّ حال.
إذا ضربت النِّظام استغل النِّظام ذۤلكَ للقول بأنَّ إسرائيل تدعم الإرهابيين ولا يوجد ثورة، يوجد إرهابين ومؤامرةٌ إسرائيليَّةٌ… ما زال يقول ذۤلكَ.
وإذا ضربت إسرائيل كتائب الثورة يستثمر النِّظام ذۤلكَ بأكثر من طريقة، مثلاً؛ خلافات بَيْنَ الإرهابين، إسرائيل قرَّرت التَّخلص من عملائها، إخفاق مخطط المؤامرة الكونيَّة والبدء بالتراجع… وهٰكذا.
الذي حدث أنَّ إسرائيل كانت تتابع العمليَّة من أساسها ولم تعط النِّظام ولا حزب الله فرصة تنفيذ العملية لتقول للنظام وحزب الله بأنَّهما دخلا منطقة الممنوع، هٰذه منطقةٌ لا يسمح أن يتم اللعب فيها. لأنَّ قيام النِّظام وحزب الله بتنفيذ العملية يعطي جماعات أُخْرَىٰ فرصة القيام بمثل هٰذا التَّصرف سواء ردَّت إسرائيل أم لم ترد، وإسرائيل لا تريد أن تسمح بفتح مثل هٰذا الباب من الجبهة السُّورية المائرة بالفوضى وعدم الضبط. ولذۤلك قامت إسرائيل بضرب الخلية قبل أن تنفذ عمليتها، كانت الضربة أقسى من المتوقع، ومع ذۤلكَ استثمرها النِّظام قدر المستطاع في زعم أنَّ الثورة بقيادة إسرائيليَّة وأنَّ إسرائيل هبت لتدافع عن الثورة!!!
الرسالة الإسرائيليَّة وصلت لحزب الله والنِّظام بعدم جواز فتح باب فتح الجبهة من الطرف السُّوري فكان الرد الحزبلاتي اليوم في مزارع شبعا. ولٰكنَّ إسرائيل لا تعرف حكمة الاحتفاظ بحقِّ الردِّ، ردَّت فوراً في اشتباكات وقصف محدودٍ جدًّا، واستنفر الجيش ومجلس الوزراء المصغر، واللجنة الأمنية. وبرز السؤال الأخطر:
ماذا يمكن أن يحدث؟
ما الآفاق المحتملة؟
مهما كانت العلاقة بَيْنَ محور النِّظام وحزب الله وإيران فإنَّ النِّظام لن يتوانىٰ عن استخدام ورقة الحرب مع إسرائيل من أجل إنقاذ نفسه مهما كانت النَّتائج. وحَتَّىٰ إذا كانت ورقته الأخيرة ما قبل الرَّحيل فمن المحتمل جدًّا أن يولع الحرب مع إسرائيل لتبدأ إسرائيل حرباً ضدَّ سوريا وتفعل ما تفعل بعد غياب الأسد ونظامه، مثلما فعل علي عبد الله صالح بتسليم اليمن لإيران والحوثيين من أجل الانتقام من الثَّورة اليمنيَّة… أي لا مانع عند بشار الأسد من قيام إسرائيل باحتلال أجزاء من سوريا في حين خروجه باتجاه فعل ما بباله، أو لتغطية خروجه بأنَّ غسرائيل من أسقطه وليس الشَّعب.
ولٰكنَّ النِّظام لا يستطيع القيام بذۤلكَ لأنَّهُ ليس لديه ما يفعله علىٰ هٰذا الصَّعيد لا من ناحية الجيش ولا من ناحية السلاح لأنَّهُ بالكاد يكفيه جيشه وسلاحه لسدِّ الثَّغرات التي كثرت عليه في أرجاء سوريا.
إيران أيضاً لن تتدخل مباشرةً ولا بأيِّ طريقةٍ تظهر تدخلها لأنَّهَا في هٰذه الحالة ستفقد رصيد الثِّقة بينها وبَيْنَ الغرب وإسرائيل، وستدخل في منطقةٍ حرجةٍ في ملفها النَّووي الذي تماطل به حَتَّىٰ تصل إلىٰ نقطة الإعلان عن تصنيع السِّلاح النَّووي. إيران في موقفٍ تكتيكيٍّ حرجٍ جدًّا وخياراتها ضيئلة ومحدودة، السلاح النووي هو البديل عن النِّظام السُّوري. ولذۤلك لا تريد اللعب بالورقة الوحيدة التي بيدها من أجل إنقاذ النِّظام السُّوري. ستضحي به علىٰ أمل أن تعلن النِّجاح في تصنيع السِّلاح النَّووي في غمرة الفوضى والتَّفاوض.
لم يبق إلا كبش الفداء حسن نصر الله ليقوم بهٰذه العملية. وحزب الله جاهزٌ لهذه المغامرة وقد بدأها بالفعل. وعمليَّة اليوم ليست ثأراً أبداً لقتلى الحزب في الغارة الإسرائيليَّة، وكلُّ من يعتقد ذۤلكَ فهو واهمٌ وواهمٌ أكثر مما يتخيَّل. هناك الكثير من العمليات الإسرائيليَّة ضدَّ حزب الله ورجاله علىٰ مدار السَّنوات السَّابقة وحزب الله يحتفظ بحقِّ الردِّ. ومنها عمليات عسكريَّةٌ جويَّةٌ في الأشهر الأخيرة في دمشق وريف دمشق… علىٰ أسلحة منقولة لحزب الله من سوريا… ومع ذۤلكَ لم يفعل حزب الله شيئاً، لم يرد، فلماذا يرد الآن؟ يريد الآن لأنَّ الأوامر صدرت بتحريك المنطقة وتوليع الجبهة مع إسرائيل.
حزب الله الطَّرف الوحيد المفترض ليكون رأس الحربة جاهزٌ للاستفزاز وتوليع المنطقة، ولا يوجد لديه ما يخسره إذا خسر النِّظام السُّوري، ومن ثَمَّ إيران لن تكون قادرةً علىٰ أن تكون سنده كما لو كان النِّظام موجوداً. نقطة ضعف حزب الله الوحيدة في الوقت الراهن هي أنَّهُ فقد رصيده الذي كان يتمع به فيما قبل الثورة السُّورية وهو لا يبالي بذۤلكَ إطلاقاً لأنه آثر الانتماء الطائفي علىٰ أي انتماء آخر. أمَّا مشكلة الرِّجال والسِّلاح فلا مشكلة له فيها بشكل عام.
ولٰكنَّ الطَّرف الآخر هو الذي يقرِّر مصير التَّصعيد. إسرائيل هي التي تقرِّر إن كان سيكون تصعيد وتوليع للمنطقة أم لا. المسألة ليست منوطةً برغبة النِّظام السُّوري ومحوره في توليع المنطقة، إسرائيل صاحبة قرارٍ وشأنٍ أيضاً، وهي التي ستحسم الموضوع.
تبقى إسرائيل إذن هي صاحبة القرار النهائي في الردِّ علىٰ الاستفزاز وتوليع المنطقة أو الاحتفاظ بحقِّ الردِّ. إسرائيل عبر تاريخه لم تحتفظ بحقِّ الرَّدِّ، ولا تقبل أن تفتح هٰذا الباب عليها. ولۤكنَّهَا مع ذۤلكَ احتفظت بحقِّ الرَّدِّ علىٰ النِّظام السُّوري فيما سمي استهدافاً مدفعيًّا طائشاً محدوداً وقليلاً، في مرتين علىٰ الأقل، في عام 2013م، وأيضاً 2014م. أعلنت إسرائيل الاحتفاظ بحقِّ الردِّ لأوَّل مرَّةٍ في تاريخها. وقد بيَّنتُ لماذا كان ذۤلكَ في حينه.
المهم الآن: ماذا ستفعل إسرائيل.
إلىٰ الذين يقولون إنَّ إسرائيل ليست علىٰ استعداد لحرب واسعة النطاق بسبب الأوضاع السائدة في المنطقة أقول: كان هٰذا الكلام صحيحاً في بداية الربيع العربي والثورة السُّورية علىٰ نحو خاص. ولٰكنَّ الواقع يقول لو أنَّ إسرائيل احتلت لبنان وسوريا فإنَّ المنطقة لن تكون أكثر سوءاً مما هي عليه الآن… والتَّعويل علىٰ الشَّارع العربي وهمٌ لا أساس له من الصحة، فالتجربة كانت من أشهر بمجزرة غير مسبوقة في غزة لم تحرك ساكناً في العالم العربيِّ بل لأوَّل مرَّةٍ في تاريخ العرب نجد من يشجع العدوان علىٰ غزة ويدعو لإبادة الفلسطينيين. تأسيساً علىٰ قول أحد (الحكماء): خير وسيلة للقضاء علىٰ الفقر هي القضاء على الفقراء. وبالقياس: خير طريقة للخلاص من الأزمة الفلسطينية هي القضاء على الفلسطينيين.
ودمتم ذخراً ذخيراً ذخوراً مذخوراً ذوخرة متذوخرة للأمة العظئمة.
إذن الخوف من الشَّارع العربي، أمرٌ غير واردٍ علىٰ ضوء معطيات الواقع التي نعيشها. وأن تولع إسرائيل المنطقة لإنقاذ النِّظام السُّوري أمرٌ يستحقُّ التفكير بالنسبة لإسرائيل حَتَّىٰ لا يسقط وتدخل سوريا في فوضى غير قابلةٍ للضَّبط تشكِّل هاجساً لا يمكن احتماله. ومع ذۤلكَ يبقى احتمال أنَّ توليع المنطقة سهل نظريًّا ولۤكنَّهُ غير مأمون العواقب من احتمالات لم تكن في الحسبان.
إسرائيل لن تسعى إلىٰ التصعيد لأنها لا تريد فتح جبهة علىٰ الفوضى من الجبهة السُّورية. وأيُّ مواجهاتٍ ستخوضها إسرائيل ستكون فقط في إطار المناوشات المحدودة الجغرافيا والتاريخ والقابلة للضبط والسيطرة. المغامرة في هٰذه الظروف ستكون كارثية العواقب علىٰ إسرائيل. ولا يجوز مقارنة العدوان علىٰ غزة بالحرب علىٰ الجبهة الشمالية لأسباب كثيرة ذكرنا في وقتها.