عندما كتبت في هذا المكان مقالا بعنوان “هذا ما يريده السودان من مصر” في 17 أبريل الماضي، استقبلت رسائل عديدة من أصدقاء وزملاء وقراء، استحسنوا الفكرة وطريقة عرضها، البعض طالبني بالحديث وبنفس الطريقة عما تريده مصر من السودان، فتمهلت، لكن يبدو أن الوقت حان للحديث عن هذه المسألة في هذا المقال.
الزيارة التي قام بها إبراهيم الغندور وزير خارجية السودان للقاهرة أخيرا، في تقديري مختلفة عن الكثير من الزيارات السابقة، واللقاءات التي عقدها مع الرئيس عبدالفتاح السيسي ووزير الخارجية سامح شكري ومساعديه سوف تكون لها مردودات إيجابية، مقارنة بغيرها.
الاختلاف والمردودات ينبعان من الوضوح والصراحة التي جرت بها المناقشات بين الطرفين، ففي كل مرة تكون هناك اتهامات من السودان يقابلها نفي من جانب مصر، وتنتهي الأزمة بمجرد جلوس المسؤولين معا في القاهرة أو الخرطوم، لذلك كانت العلاقات تتوتر من جديد عند أول مطب سياسي أو أمني تواجهه.
ما جرى هذا الأسبوع، ربما يكون غير مألوف في طريقة التعامل مع الأزمات المعتادة بين البلدين، فكل طرف عرض ما لديه من منغصات بصراحة، وحاول كلاهما البحث عن سبل مشتركة لوقف التوتر، الذي يؤثر استمراره على كثير من المصالح المشتركة، ونتيجته معروفة سلفا، وهي خسارة حتمية للطرفين.
تعامل القاهرة مع التصريحات السودانية التي وجهت أصابع الاتهام لها بدعم المعارضة في دارفور، كان هادئا ويشبه المرات السابقة تقريبا، لكن السياق الإقليمي الذي جاء قبله وبعده ساعد في تضخيمه، ومنحت الردود الصارمة على الاتهامات بعدا بدا لكثيرين مختلفا عما كان سائدا قبله، حيث ألمح الرئيس السيسي أنه لن يتردد في استهداف أي مكان يضر بالأمن القومي لبلاده.
مع أن الكلام جاء ردا على العملية الإرهابية التي وقعت في المنيا بوسط مصر وأدت لمصرع 29 قبطيا وإصابة آخرين، غير أن البعض فهم منها رسالة تحذير شديدة للسودان، خاصة أن هذا الكلام أعقبه حديث عن قيام مصر بنشر قوات عسكرية كبيرة عند منطقة المثلث التي تلتقي عندها حدود السودان وليبيا مع مصر.
بصرف النظر عن التلميحات والإشارات التي تعمّدَ كل طرف أن تحمل مضامين سياسية وأمنية معينة، فإن الصعود والهبوط اللذين يعتريان العلاقات بين البلدين يؤكدان أن هناك حالة من فقدان الثقة، وهواجس لا تزال تختمر لدى كل جانب، قد يتم التعبير عنها صراحة أحيانا، لكن غالبا تظل كما يقول أهل السودان ضمن “الكلام الساكت”، أي طي الكتمان والذي يعبر عن أزمة لا يريد كل طرف الحديث عنها مباشرة وعلانية.
ربما يكون المقال السابق الذي تحدثت فيه عما يريده السودان تطرق إلى نقاط عدة لامست صميم العلاقة بين البلدين، ولتعميم الفائدة أنظر هنا للمسألة من زاوية عكسية، فما هو الذي تريده مصر من السودان؟
المسألة ليست هينة ليتم اختصارها أو حصرها في بضعة نقاط سريعة من قبل صحافي مصري، لكن حيويتها وأهميتها وخطورتها تستلزم قدرا من المناقشة المستفيضة من جانب المسؤولين، قبل أن يأتي يوم تتدهور فيه الأوضاع وتصعب معه اللقاءات الودية وتفقد الصراحة قيمتها السياسية.
القضية الأولى تتعلق بضرورة أن يوقف السودان احتضان الكثير من العناصر المحسوبة على جماعة الإخوان وحلفائها، لأن توفير ملاذ آمن لهؤلاء في الخرطوم وضواحيها يدفع لمزيد من التحريض على العنف في مصر، وربما لم تحتل هذه المشكلة حديثا مباشرا، لكن تبقى واحدة من أهم العوامل الضمنية التي تعكر صفو العلاقات بين البلدين.
الأدهى أن نفي الخرطوم لهذه التهمة، تكذبه أفعال تشي بالاحتفاظ بالحبل السري للعلاقة التي تربط قيادات في النظام بتيار الإسلام السياسي عموما حتى الآن، وتفضحه تصريحات بعض العناصر التي وجدت رعاية في السودان.
الخطورة أن الصمت الذي التزمت به بعض القوى الإقليمية والدولية حيال هذه القضية أوشك أن ينتهي، وربما يتحول إلى صرخات وفضائح سياسية، وهو ما يفرض على الخرطوم التعاون مع القاهرة لإنهاء هذه الظاهرة.
الثانية، ضبط الحدود السودانية بصرامة، فقد انتهى الوقت الذي كانت الحدود تستخدم لتسريب الأسلحة والبشر إلى سيناء وقطاع غزة، وكانت هناك شواهد على علاقة متينة بين الخرطوم وطهران منذ سنوات، وبعد أن انقلب السودان على إيران وتوترت علاقتهما لا تزال هناك تسريبات للأسلحة والبشر من جهات أخرى، نتيجة التراخي وربما التواطؤ في ضبط الحدود، واستمرار الخيوط التي تربط عناصر محسوبة على النظام السوداني بجماعات متشددة تنشط على المسرح الليبي، لذلك نشرت مصر قوات أمنية عند حدودها الجنوبية، وضاعفت من وجودها مع ليبيا والسودان أيضا.
الثالثة، التفاهم الودي والتوصل إلى آلية معينة لحل أزمة حلايب وشلاتين، لأن طريقة التحريض التي يتعامل بها السودان مع مصر، كلما ضاقت به السبل، تضر بالبلدين وتؤثر سلبا على فرص التسوية السياسية مستقبلا، حتى تحولت هذه الأزمة إلى شماعة تعلق عليها الخرطوم بعض إخفاقاتها الداخلية ومشكلاتها الخارجية، وتلجأ إليها إذا أرادت الشوشرة السياسية على القاهرة.
الرابعة، التزام السودان بموقف موضوعي من سد النهضة، بعيدا عن المكايدات، كما أن التأثيرات البعيدة له سوف ترخي بظلال سلبية على السودان نفسه، الأمر الذي يستوجب التعاون والتنسيق مع مصر لمنع أو تقليل الأضرار الناجمة عن هذا المشروع، بدلا من الدفاع عن أديس أبابا والانحياز لرؤيتها الفنية والسياسية، ما يمنحها أغلبية داخل دول حوض النيل التي تحاول إدخال اتفاقية عنتيبي حيّز التنفيذ، ما يؤدي إلى إعادة النظر في حصص المياه المقررة تاريخيا لدول الحوض، وفي مقدمتها مصر والسودان.
أما القضية الخامسة، فهي عدول السودان عن الانحياز لبعض الدول التي لها مشكلات مع مصر، فالتقارب مع طهران وصل إلى مرحلة متقدمة عندما دخلت علاقات الأخيرة مع القاهرة إلى ذروتها من الانحدار قبل سنوات، وتنامت علاقات الخرطوم مع كل من الدوحة وأنقرة وأديس أبابا ووصلت لأعلى درجات الود بعد أن تضخمت خلافات القاهرة مع العواصم الثلاث، الأمر الذي وضع السودان في مركز رأس الحربة الذي يحاول إحراز أهداف في مرمى مصر لصالح فرق (دول) أخرى.
كاتب مصري
محمد أبو الفضل
المصدر:صحيفة العرب