بإمكانات تعادل واحداً على عشرين من قدرات العرب، تقاتل إيران دفاعاً عن كل شبر انتزعته منهم، وتستخدم قدراتها وألاعيبها من أجل الحفاظ على حضورها المادي، ونفوذها السياسي في سورية والعراق ولبنان واليمن، وتشن هجمات وهجمات معاكسة مؤثرة، ضد مشارق الأرض العربية ومغاربها، تبدو معها وكأنها ليست قوة أجنبية أو معادية، بل جهة محلية تحمي ممتلكاتها وحقوقها السيادية، وتقرر شؤونها برفع أيدي غيرها عنها.
لم تحقق إيران هذا من فراغ، فقد بدأت عقب انتصار ثورتها بفترة قصيرة عملاً منظماً لتصدير نموذجها السياسي، ولتأسيس مرتكزات مماثلة لها في الهوية المذهبية داخل دول عربية عديدة، وتمددت داخل دول مشرقية بدءاً بسورية، لاحتلالها من الداخل والسيطرة على إرادتها وخياراتها، وأقامت، في كل مكان، بنى أيديولوجية وأمنية وعسكرية مماثلة لبناها، أنفقت عليها مئات مليارات الدولارات، لاعتقادها أن فشلها سيكون مرجحاً إن هي أقامت علاقاتها مع جوارها العربي والإسلامي على علاقات تحالفية، ولم تؤسس وجودها داخل مناطق بعينها منه على بنى داخلية تنقلها إليها، تأتمر بأمرها انطلاقاً من هوية موحدة تجمعهما، تجعل مصالحهما متطابقة، وتجعلها، كبنى خارجية، جزءاً تكوينياً من كيانيتها الخاصة، يديره وكلاء لها من مواطنيها المحليين الذين يجب أن يحتلوا مفاصل معينة في بلادهم، أو يدينوا بقدر من الولاء لمرجعيتهم في طهران، يوازي أو يبز نظيره تجاه مسؤوليها وقادتها، لتتكامل بذلك بنيتها البرانية مع بنيتها الداخلية، وتشكلا كلًا واحداً، ذا سمات موحدة، تشبه تلك القائمة في إطار دولة وطنية واحدة، تتفاعل مكوناتها في حقل تواصلي، توجهه أيديولوجية وظيفية، تشتغل بآليات دمج واحتواء فاعلة، تجعل من المحال التفريق بين كياناتها البرانية، كحزب الله مثلاً، والداخلية كالحرس الثوري، على الرغم من أن الأول يعتبر لبنانياً، والثاني فارسياً، أي انتصار يحرزه الحوثيون في اليمن انتصاراً لجيش إيران وأمنها، يضع عاصمة عربية تحت تصرفها، أو في جيبها، فكأنه غدا جزءاً تكوينياً منها، تشده إليها بأواصر المصلحة والعقيدة والولاء، وتمون عليه، كما تمون على أي جهاز من أجهزتها، وأيّ مكوّن من مكوناتها الذاتية.
حققت إيران هذا الإنجاز، بينما كان العرب يتصارعون ويمزقون بعضهم، ويعرضون أنفسهم وأوطانهم للغزو والاختراق والتبعية، ويسمحون بخروج قضاياهم الحيوية من أيديهم، وبتلقفها واستعمالها من إيران، وكأنها قضايا وطنية تخصها، ولا شأن لغيرها بها، على غرار ما فعلته في قضية فلسطين التي درجنا على تسميتها “قضية العرب الأولى والمركزية”، فقد استولت طهران عليها وأممتها، واتهمت أي عربي حاول لعب دور فيها بالتآمر مع العدو والتواطؤ ضد مصالح الفلسطينيين، وحقهم في وطنهم، بل إنها أسست تنظيماً خاصاً، مهمته الوحيدة إيجاد شروط ملائمة للمتاجرة بقضية فلسطين وقضايا العرب، حتى ضد أصحابها الأصليين، أشرفت على تسليحه، وزودته بعشرات المليارات من الدولارات، ووضعت قسماً كبيراً من خبرائها العسكريين ودعاتها المذهبيين والأيديولوجيين تحت تصرفه، وكلفته حتى بمهام داخلها، كحماية بعض قادتها ومناطقها، وأشركته في معاركها السياسية والعسكرية، من أقصى أراضي العرب إلى أدناها، وفي ما وراء حدود العالمين العربي والإسلامي، فكان دوره نموذجاً مقنعاً أكد قدرتها على العمل الاستراتيجي والتفكير الطويل الأمد، وعجز العرب عن مجاراتها في أي أمر.
ليس هناك اليوم أي رد عربي على هذه الاستراتيجية المحكمة، الاختراقية الفعل والتواصلية البنية، داخلياً وخارجياً، التي تستخدم الإيرانيين كقادة لها في بلدان أجنبية، وأجانب في إيران كضباط أمن ومقاتلين، ينفذون أية عملية تطلب منهم، داخل إيران والمجال الاستراتيجي الإيراني وأي مكان آخر. ولن ينجح العرب عامة، والخليجيون منهم خصوصاً في التصدي لاستراتيجية إيران، ما لم يتكوروا على أنفسهم، ويلتفّوا حول دولةٍ، أو مجموعة دول عربية، تمتلك قدرات كافية، وعدداً كبيراً نسبياً من السكان، واقتصاداً على قدر مقبول من استثمار الثروات الوطنية وعوائد الإنتاج والاندماج في السوق الدولية، وجيشاً يستطيع الدفاع عن سيادتها ضد أي خطر داخلي أو إقليمي، وعلاقات دولية تتيح لها دعماً قوياً من دول عظمى ومؤسسات الشرعية الدولية، على أن تضع خطة عامة لإصلاح عربي متكامل، يضمن نمواً اقتصادياً وسياسياً، دولويا ومجتمعياً، متوازناً ومضطرداً، يدمج مختلف الأقطار في مجال توجهه قيم وأهداف وآليات عمل موحدة أو متقاربة، تنبثق عن استراتيجية مشتركة وتدريجية، يتقيد الجميع بها من دون استثناء، رهانها ردم الفوارق بين مختلف البلدان، وتقريب مستويات تطورها وحياتها على جميع الأصعدة السياسية والاجتماعية والاقتصادية والعسكرية والثقافية، تحقيقاً لانتقال مدروس إلى الحداثة، ينتهي معه انغلاقها حيال بعضها، وانغلاق نظمها حيال شعوبها، ويتعزز تصميمها على وضع حد لتشتت إرادات العرب وخياراتهم، ولصراعاتهم العلنية والخفية، ليبرزوا قوة تتكور على ذاتها، يقودها مركز موحد ومبادر يستطيع احتواء القوى والكيانات الداخلية التابعة لطهران، من حزب الله إلى الحوثيين… إلخ. أتحدث عن وحدة العرب التي يعتقد أغلبيتهم، اليوم، أن زمنها مضى إلى غير رجعة، وأن الحديث عنها لن يكون غير لغو لا خير فيه. لنترك، الآن، وحدة الشعوب التي طالما حلمنا بها، وتوهمنا أن تحققها يجب أن يلغي الدول، وإنه سيحل دولة واحدة موحدة محلها، ستكون وحدها دولتنا. ما الذي يمنع اليوم وحدة الحكام التي تخدم مشروعاً لطالما حلم به التقدميون والوحدويون، وآمن به التقليديون والانفصاليون، جوهره: تطوير وتحديث وتمتين سلطة تطور وتحدث وتعزز وتمتن مجتمعاتها، تدريجياً وبطرق مدروسة ومتأنية وبطيئة وآمنة؟ لنبدأ إصلاحاً يتناول هذه السلطة وطرق عملها وطابعها، ولننتقل منه، بقدر ما يتقدم ويصير آمناً إلى إصلاح أحوال المجتمع التي نعلم، جميعاً، أن الامتناع عن إصلاحها لعب دوراً رئيساً في قيام ثورات الربيع العربي، وأنه لن يكون هناك، من الآن فصاعداً، أي بديل للإصلاح غير الثورة. ولنلاحظ أن نموذج الإصلاح الذي أقترحه فشل في تجارب النظم الاشتراكية والقومجية العربية، وتسبب بدوره في نشوب الثورات الراهنة. لذلك، من المحتم إجراء دراسة موسعة للملابسات المحلية التي تكفل نجاحه، وإلا كانت نتيجته: الثورة التي لا بديل لها اليوم غير الإصلاح، أو سياسات وتدابير ظالمة، إقصائية وعنيفة، تدفع الشعوب دفعاً إلى الثورة وتجعل قيامها حتمياً. ليس من المفيد نقل تجارب الآخرين، وإن نقلنا نموذجهم، شريطة أن نعدله، ونكيفه مع أوضاعنا وأهدافنا، ونجعل منه نموذجاً قابلاً للنجاح، وليس تجربة أخرى من تجاربنا الفاشلة.
لن ينجح الخليج في كبح إيران، أو الصمود في وجهها، وتفادي سقوطه أمامها، بلدا بعد آخر، إن بقيت هي موحدة ومتماسكة على صعيد السلطة وأدواتها، محكومة بالدولة العميقة وخططها ومصالحها ونزعاتها التوسعية وتقاليدها في الحكم والإدارة، متموضعة خارج مجالها الخاص، من خلال تنظيمات قوية وحسنة التمويل والتسليح، هي امتداد لها ولأجهزتها، وبقي هو مشتت الإرادة، تخشى كياناته على استقلالها الهش من مخاطر تأتي من شركاء وجيران عرب، لا بد من ردعهم، بالاستعانة بقوى إقليمية ودولية: منها إسرائيل وإيران محلياً، والغرب الأميركي دولياً، مع ما يعنيه ذلك من تقييد حقها في تقرير شؤونها بحرية، والمحافظة على ما تخشى زواله: كيانها الهش واستقلالها المحدود.
لن يتزحزح التفوق الإيراني على الخليج من دون إصلاح دوله، وتوحيد قدراته، في إطار عربي يمده بقوى احتياطية كبيرة، لكنها معطلة. أما الاعتماد على الردع الأميركي فهو فخ، ومشكلة ستبقى من دون حل في ظل استمرار ضعف دوله وتشتتها، بالنظر إلى أن مصلحة أميركا الاستراتيجية تكمن في بقاء إيران قوية وقادرة على تخويف جيرانها العرب، إلى الحد الذي يجبرهم على وضع مصيرهم ومقدراتهم بين أيدي البيت الأبيض، الحريص على بقائهم ضعفاء ومشتتين.
هل يقدم الخليج على هاتين الخطوتين، فيعتمد سياسات جديدة حيال سورية وثورتها، تضع قدراتها وقواها في خدمته، وتجعلها جزءا من حماية أمنه ووحدته، سواء من خلال دورها في كبح إيران وإخراجها من الوطن العربي، أم معاقبتها على الجرائم التي ارتكبتها ضد الشعب السوري وسائر الشعوب والأقطار العربية.
في منظور استراتيجي، يعتبر تمسك دول الخليج بسياسات سورية، تنضوي في الإطار الأميركي إسهاماً خطيراً في تقويض كياناتها بأيديها، لأن التزامها بالسقف الدولي للأزمة السورية يكون سبباً في انهياره، وانهيار السقوف الإقليمية عامة، والإيرانية خاصة، على رؤوسها. من هنا، يعتبر موقف دول الخليج من سورية موقفها من نفسها، ويهدد استقلالها وحريتها بقدر ما يحول دورها إلى دور يساعد، أو يساند أدوار الآخرين، بينما تدور معركة سورية في الخليج نفسه، ومن الخطأ أن لا يخوضها الخليج بصفتها معركته، معركة الدفاع عن كياناته وهويته التي تظهر أزمة اليمن عمق اختراقها، وقلة حصانتها ضد اختراق إيراني متوعد، يهددها به قادتها ويطرق بالقول والفعل أبوابها.