العربفاروق يوسف [نشر في 2016\01\31]
لندن – والده كان صيدليا في دمشق. نحن في العام 1920 وهو عام ولادته. أما خاله فهو محمد كرد علي، المؤرخ والعلامة ومؤسس المجمع العلمي العربي بدمشق.
في “مكتب عنبر” وهو المدرسة الثانوية العريقة في دمشق أكمل دراسته، غير أن تلك المدرسة وهبته فرصة اللقاء بمعلمه جورج بولص خوري، الرجل الذي تعلم فنون الرسم والزخرفة في باريس.
عازف الموسيقى الذي صار رساما
في سن السادسة عشرة انضم إلى دار الموسيقى الوطنية بصفته عازف أكورديون. غير أنه بعد سنتين، أي في العام 1938 أقام معرضا للوحاته في نادي ضباط دمشق.
حين ذهب إلى إيطاليا أواخر الثلاثينات، فاجأته الحرب العالمية الثانية فانتقل عام 1942 إلى مصر لدراسة الرسم. ما من شيء في رسومه يذكّر بالمدرسة المصرية الحديثة، بالرغم من أنه قضى خمس سنوات هناك.
كانت الانطباعية قد تمكّنت منه وهو ما يفسر عزوفه عن التأثر بالفن المصري الذي كان يومها يتوزع بين الواقعية كما جسدها محمود سعيد والسريالية كما تمثلها رمسيس يونان.
عام 1950 كان مثاليا بالنسبة إليه. في باريس رأى نصير شورى لوحات ملهميه من الانطباعيين. في السنة التالية ذهب إلى روما ليطّلع على أعمال المحدثين من الرسامين.
ما تعلمه شورى أثناء أسفاره هو الشيء الأهم في مسيرته الفنية. في دمشق كان رسولا للحداثة بالرغم من أنه لم يتخذ التجريد أسلوبا في الرسم إلا نهاية الخمسينات. يقال إنه سبق في تجريديته زميله ورفيق عمره محمود حماد بسنة واحدة. أكان نصير شورى هو الرسام التجريدي الأول في سوريا أم سبقه إلى ذلك رفيق حياته محمود حماد حين تحول إلى الحروفية؟
في المرسم الذي كان حجر أساس
“مرسم فيرونيز″ كان عنوانا لمرحلة تأسيس في تاريخ المحترف الفني السوري الحديث. عام 1941 شارك شورى مع محمود حماد وميشيل كرشة ومحمود جلال ورشاد قصيباتي وعبدالوهاب أبو السعود، في تأسيس أول تجمع فني في تاريخ الحركة التشكيلية السورية.

ولأن المرسم كان في الأصل ورشة دهان للمفروشات وألعاب الأطفال فقد كان الفنانون يصنعون في أوقات فراغهم ألعابا خشبية للأطفال. لعب المرسم دورا مهما في الحياة. فيه كان الفنانون يتبادلون خبراتهم ويتلصّص بعضهم على البعض الآخر في محاولة للتعلم والتجاوز. أما حين استضاف المرسم عددا من الفنانين القادمين من شرق أوروبا هربا من الحرب فقد كان ذلك الحدث فرصة للفنانين السوريين لاختبار أعمالهم من خلال عيون غريبة.
في تلك المرحلة مارست الانطباعية تأثيرها على جماعة فيرونيز. وهو ما كان ينسجم مع المزاج السوري الذي يميل إلى التماهي مع تجليات الطبيعة بكل ما تنطوي عليه من ترف.
كانت رسوم شورى تتخطى الدرس الانطباعي بانضباطه غير المصرح به لتمضي حرة في سياق نزعة تعبيرية، استهل الرسام بها علاقته التصويرية المتقطعة مع المشاهد البيئية والصور الشخصية. تنوع في الموضوعات جعل رسومه بمثابة يوميات لحياة المدينة المقبلة بشغف على حداثة أبنائها. كان فنانو فيرونيز طليعة التحول الذي أضفى على الرسم طابع التعبير الشخصي، بعيدا عن مقاييس الحرفة التي كانت في متناول الجميع.
في ذلك المنزل الذي يقع في الطابق الأرضي لبناية كانت تقع في زقاق متفرع عن جادة رامي بدمشق كان هناك فنانون شباب يخططون لمستقبل الرسم الذي لم يتأكدوا من ديمومته إلا حين تم تأسيس كلية الفنون الجميلة عام 1960 وكان نصير شورى واحدا من المؤسسين.
الشعر تحت ثياب الرسام
“شاعر اللون” كان ذلك لقبه الذي لازمه في مختلف مراحل تطوره الأسلوبي. من انطباعيته التي تميزت بميلها إلى الواقع إلى تجريديته التي كان في بعض مراحلها حروفيا وكان الشغف باللون مهيمنا عليه.
عام 1965 يوم كان شورى في ذروة انفتاحه على الأسلوب التجريدي أسس مع محمود حماد وإلياس الزيات وفاتح المدرس جماعة “د” التي يحيل اسمها إلى دمشق. مؤسسو تلك الجماعة كانوا بمثابة مؤسسي وعي حديث بالرسم، وهو ما كان ينسجم مع دعوات التحديث التي سادت في عقد الستينات. كان شورى يومها يميل إلى اختزال الأشكال مستعينا بخبرته اللونية. وهو ما أهله ليكون غنائيا في تجريده. ألا يستدعي ذلك التحول التفكير في ما كان عليه الرسام يوم كان طفلا وهو يتسلق سلم الموسيقى؟ موسيقيّ الأشكال كان كما كان شاعر اللّون.
وكما أرى فإن نصير شورى لم يجد نفسه إلا في عقد السبعينات. يومها صار يزاوج بين الانطباعية والتجريدية كما لو أنه يفعل الشيء نفسه، مطمئنا إلى أن قوّته الروحية لم تذهب سدى.
لم يكن حرا في انطباعيته ولم يكن مقيدا في تجريديته. سيقال إن شورى أعاد الانطباعية إلى المختبر وبالقوة نفسها سيقال إنه انفتح بتجارب المختبر على ما يقع من حوله، في محيطه الواقعي. ما فعله شورى في حقيقته أنه لم يعد كل شيء إلى مكانه. كان انطباعيا في التجريد وفي الوقت نفسه كان تجريديا في انطباعيته. وكما أرى فإن الرسام الذي قضى العقد الخمسيني وهو يتأمل لوحات كلود مونيه في باريس كان مخلصا لدرس الرسام الفرنسي.

لقد ولد التجريد من بين ثنيات سطوح لوحات مونيه. لذلك فإن شورى لم يتأثر بتجريدية فاسيلي كاندنسكي الغنائية. كان مونيه مرجعه الذي علمه كيف يتخطى حاجز المرئي ليكون في صحبة الأشباح التي يباركها اللون.
احتفاء الفنان بحريته
بين التشخيص والتجريد لم تكن هناك من مسافة في إمكانها أن تحرج نصير شورى. كان الرسام يمد لحافه أينما يصل. لم يخن عواطفه الباذخة حين يكون انطباعيا ولم يبدّد شيئا من صرامته حين يكون تجريديا.
كان نصير شورى واحدا من قلة من الرسامين العرب الذين استطاعوا أن يزاوجوا بين التشخيص والتجريد من غير أن يلفّقوا أسبابا لذلك الزواج الذي لا يقبل به التاريخ. يقول شورى إنه مرّ بثلاث مراحل. كان في الأولى منها انطباعيا وفي الثانية كان تجريديا. يومها بدأ ولعه بمادة الإكرليك، وهي مادة تعامل بالماء. أما في المرحلة الثالثة فإنه عاد إلى الطبيعة. لكن بأيّ معنى؟ يقول “رجعت إلى الطبيعة. المرحلة التجريدية علّمتني خصائص جديدة في اللون. وقد سمّيتها مرحلة الواقعية الجديدة. أنطلق في مقدمة اللوحة من مساحات هندسية أنهيها بأشجار متفاوتة الأبعاد. ما أزال مرتبطا بالمنظر، لكنني أتصرف بحرية”.
ما من رسام سوري احتفى بحريته مثلما فعل نصير شورى. وأنا أكتب عنه أفكر في سعادته. كان نصير شورى رساما سعيدا. ملك المرئيات من حوله فرسم مدينته التي أحبها بطريقة قرّبته من الانطباعيين الفرنسيين الذين شغف برسومهم، غير أنه كان في الوقت نفسه وفيا للأرواح التي تحلق في هواء تلك المدينة فكان تجريديا بطريقة لم تبعده كثيرا عن مفردات حياته الشخصية.
لم يكن تجريد شورى باردا ولا محايدا. كان ذلك التجريد ابن لحظته ووفيّا لمكانه. منذ بداية الستينات كان نصير شورى مدرّس الرسم الذي تتلمذت على يديه أجيال من الرسامين السوريين. ولن أبالغ في القول إن الشيء الكثير من الرقة الذي تسلل إلى لوحات الرسامين كان التأثر بتجربة شورى مصدره.
أغمض نصير شورى عينيه عام 1992 إلى الأبد على مشهد فني عظيم في سوريا كان واحدا من أهم بناته.
كاتب من العراق
العرب