لم يتخيّل الرئيس الأميركي، باراك أوباما، لحظة أن يضطر أن يستقبل دونالد ترامب منتصراً. لا شك أن أوباما الذي أفلت أيامه في البيت الأبيض أحدث تغييرات كبرى في منحى سياسات بلاده، الداخلية منها والخارجية. ولعله أراد أن يخلفه رئيس يحافظ على إرثه ويواصل مسيرته.
جاء اللقاء بين أوباما وترامب سوريالياً؛ رجل كرّس سنوات رئاسته لتحقيق إنجازات معينة، بمواجهة الشخص الذي تعهد بنسف كل تلك الإنجازات. مع ذلك، حصل اللقاء، وليس بإمكان المرء سوى أن يخمّن ما تم الحديث حوله بشأن سياسة أميركا الخارجية، استناداً إلى إعلان أوباما، بعد اللقاء، أنه قدم سلسلة نصائح للرئيس المنتخب بشأن الحكم.
ربما أراد أوباما لهذه النصائح أن توجه خلفه إلى حقيقة السياسات التي اتبعها خلال السنوات الثماني الماضية، وأن يوضح الاستراتيجية العامة التي حكمت تلك السياسات.
أغلب الظن أن أوباما أورد على مسامع الرئيس المنتخب تحذيراته من الانجراف وراء “من يعتقد العالم أنهم أصدقاؤنا” في الخليج. بحسب الرئيس الحالي، يريد هؤلاء جرّ الولايات المتحدة إلى “حروب طائفية وعشائرية بغيضة”، عوض أن يركّزوا على “الحكم الرشيد وتمثيل الشباب” الذين يصبون الآن طاقاتهم في “التطرف”.
أوباما القلق من نوايا خلفه حيال ما يعتبره الإنجاز الأبرز لعهده على صعيد السياسة الخارجية، الاتفاق النووي الإيراني، أبلغ ترامب بمشاعر الاحترام والتقدير التي يكنها لـ “الأمة الإيرانية العظيمة”، والخدمات الجليلة التي قدمتها الحكومة الإيرانية للكفاح ضد تنظيمي داعش وجبهة النصرة في سورية والعراق. ربما قال له: “لا تغتر بالمظاهر والتصريحات المعادية، الإيرانيون لاعبو شطرنج ماهرون.. يموّهون استراتيجيتهم بغطاء كثيف من الترهات الإيديولوجية المقيتة، لكنهم، على أية حال، واقعيون وعقلانيون. لا تأخذ بكلامهم المعلن، بل بأيديهم الممدودة من تحت الطاولة.. أنت رجل صفقاتٍ، لا تتردد أبداً في عقد مزيد من الصفقات مع الإيرانيين، كما فعلت أنا”.
ربما أتبع هذا الكلام بآخر: “دونالد.. سأقول لك سراً: أنت تريد تمزيق الاتفاق النووي
الإيراني، لكنه رأس جبل الجليد بالنسبة لعلاقاتي مع طهران. صفقاتي الإيرانية امتدت من النووي إلى السكوت عن دخول مقاتلي الباسدران (الحرس الثوري الإيراني) الحرب في سورية، وعبور مسلحي حزب الله الحدود اللبنانية السورية للقتال داخل جارتهم. وأهم تلك الصفقات في العراق، حيث طائراتنا في الجو والجيش العراقي والحشد الشعبي والمستشارون الإيرانيون على الأرض”. وأغلب الظن أنه توجه لخلفه قائلاً: “السيد ترامب، إيران هي المستقبل بالنسبة لبلادنا في الشرق الأوسط، دع هذا الاعتبار يوجّه سنوات حكمك. العرب هم رجل هذا العصر المريض، إسرائيل مصيبة، وتركيا يجب احتواؤها. الوضع هكذا: تعلمت خلال رئاستي ألا أقيم وزناً للعرب، أن أتجاهل الإسرائيليين، ألا أثق بالأتراك أبداً”.
وهكذا، ربما جاءت تتمة حديث أوباما عن الشرق الأوسط: “عزيزي دونالد، لا تكرّر خطأ سلفي الجمهوري جورج دبليو بوش. عوضاً أن يعتبر السعودية رأس محور الشر العالمي، صنّف العراق وإيران وكوريا الشمالية على هذا المحور. تذكّر أن غالبية المتورطين في اعتداءات الحادي عشر من أيلول هم من مواطني “صديقتنا” السعودية.. هذه الدولة لم تدفع، حتى الآن، الثمن عن ذلك. انظر ما خلفه تركها طليقة إلى هذه السنوات، تسبب في تزايد قوة “داعش” و”النصرة”، بل وحتى حركة طالبان وتنظيم القاعدة”.
الأرجح، أن أوباما توخّى أقصى درجات الدبلوماسية، واختار كلماته بحذر، لدى حديثه عن روسيا أمام خلفه. ربما قال له: “أعلم أنك، أيها العزيز دونالد، معجبٌ بشدة بالرئيس الروسي فلاديمير بوتين. قد يعتبر بعضهم (من بينهم ترامب كما صرّح بنفسه)، أن “بوتين زعيم قوي، استراتيجي ماهر، ومحنك”. دعني أقول لك هذا: الحقيقة أن كل فعله الرئيس الروسي كان مصمّماً لجذب اهتمامي فقط. عرض ممثلو بوتين علينا مئات الصفقات يتخلون بموجبها عن “حليفهم الأسد” في مقابل أي شيء في أوروبا الشرقية، لكني رفضت. كان ذلك قبل أن أحرمهم أوكرانيا. وبعد فشلهم في أوكرانيا، غضب الروس، ونفذوا برنامج توسع في القرم وشرق أوكرانيا وسورية. في جميع الظروف، تبقى حالتهم بائسة. لا يريدون أن يتخلوا عن أوهامهم بأنهم قوة عظمى. بالنسبة لي، ليست روسيا كذلك، هي ليست أكثر من “دولة إقليمية عظمى”. تحركاتهم تحت سيطرتنا، نستطيع تعطيلها في أي لحظة. ثق بي”.
عند هذا المنعطف، ربما قدم أوباما شرحاً عن استراتيجيته العالمية التي وجهت سياسات إدارته على مدار السنوات الثماني الماضية. “أيها العزيز ترامب، أريدك أن تسمع مني شخصياً، عن
المبادئ الكبرى التي أرشدتني، عندما كنت أوجه السياسة الخارجية لأمتنا. عملت بكل ما أملك من قوة، مثابرةً ودهاء على احتواء الصين، التي، كما تعلم، تجاهلها بوش الابن، على الرغم من أنها صعدت لتكون المنافس الاستراتيجي لبلادنا خلال العقد الماضي. من جهة أخرى، كنت سعيداً بترك الروس يخوضون مغامراتهم التقليدية التي اعتادوا على القيام بها خلال القرون الماضية، لاعتقادي أنهم سيعودون، في نهاية المطاف، إلينا، للجلوس على الطاولة، لكنهم، على أية حال، سيأتون خائري القوى، منهكين، مذعورين من الصين، ومستعدين لقبول أي صفقةٍ نعرضها عليهم. صدّقني هكذا ستجري الأمور. دع محبوبك بوتين يواصل مغامراته، لا تقدّم له طوق نجاة الآن، الأفضل أن ترتب الأمور لذلك. لكن، لا تفعل قبل نهاية ولايتك”.
ربما أطرى أوباما خلفه في نهاية لقائهما. قد يكون قال له بلطف ممزوج بشيء من النصح: “أنا مثلك، عزيزي دونالد، لا أرى العالم بنظرة الحرب الباردة. ومثلك جئت من خارج المؤسسة، وتمرّدت على تقاليد واشنطن. خالفت جميع مستشاريي وخبراء الأمن القومي المتحذلقين. وأعتقد بأني نجحت ومتأكد من نجاحك. بالتوفيق، وليبارك الله بلادنا”.
على الأغلب، أن أوباما أورد نصائحه من دون أن يلتفت إلى رأي خلفه فيها. ربما أراد فقط أن يستعرض حكمة قراراته أمام ترامب، في لقاءٍ اضطره البروتوكول الرئاسي الأميركي لعقده. وعلى الأرجح، لن يعبأ ترامب بما قاله أوباما، فهو مصمّم على تحطيم المعبد ومجمل سياسات سلفه الخارجية والداخلية، من دون أن يفكّر في تداعيات ذلك على النظام الدولي، تماماً كما قلب أوباما مجمل سياسات جورج بوش الابن.
أنيس الوهيبي_العربي الجديد