أيمن أبولبن – القدس العربي
في 18 آذار/مارس من عام 2011 انطلقت مسيرات شعبية ضخمة في درعا تحت شعار “جمعة الكرامة” احتجاجاً على الاعتقالات الواسعة التي قامت بها السلطات السوريّة ضد أطفال درعا وشباب في مختلف المدن السوريّة، ولم يختلف رد النظام عن سابق عهده، فقام الجيش بفض الاعتصامات والتظاهرات بالقوّة، وحاصر محافظة درعا بالدبّابات والمدرّعات. ولكن المظاهرات بقيت في تصاعد، واستمرت الاحتجاجات الشعبيّة وامتدّت إلى معظم القرى والمدن السوريّة بعد أسبوع تحت شعار “جمعة العزّة” ثم تعدّدت الشعارات واشتعلت الاحتجاجات كالنار في الهشيم، وبقيت دمشق العاصمة الأقل تأثراً بالأحداث رغم أنها شهدت العديد من المظاهرات والمواجهات مع الشرطة والجيش.
من يقرأ أحداث تلك المرحلة بعمق دون التركيز على الأحداث التي تطفو على السطح، يتأكد بأن النظام السوري اتخذ استراتيجية واضحة ومحدّدة منذ البداية، ترتكز على ثلاث نقاط أساسيّة: استخدام العنف والبطش دون حدود أو محدّدات، عدم التفاوض أو تقديم تنازلات سياسيّة “حقيقيّة” والاكتفاء بالشعارات الشكليّة الخالية من المضمون، عدم الاعتراف بالمعارضة والاعتماد على نظرية المؤامرة لتخوين كل من ينادي بالإصلاحات أو “إقصاء الآخر” بالمعنى الحرفي للكلمة. وكان الهدف الأساسي من وراء هذه الاستراتيجية هو القضاء على الاحتجاجات في أسرع وقت ممكن دون إعطاء أي فرصة لتكرار ما حصل في تونس ومصر. وارتكبت القوات النظاميّة والميليشيات المسلّحة بالإضافة إلى عصابات “الشبيحة” جرائم ومجازر وانتهاكات لا يصدقها عقل ولا يتصورها بشر مردّدة شعار “الأسد أو نحرق البلد”.
كان لافتاً تدخّل ميليشيات شيعيّة من خارج سوريّا لصالح النظام منذ اندلاع احتجاجات درعا، وقد تم توثيق ذلك عبر الصور وشهادات أهل المنطقة عدا عن الكتابات الطائفية على جدران درعا ومساجدها السنيّة، وكان من اللافت أيضاً استخدام الرصاص الحي لتفريق المظاهرات منذ اليوم الأول، مما أدّى إلى إصابة المتظاهرين إصابات قاتلة ومباشرة. وقامت قوات النظام بنشر القنّاصة على سطوح المباني ليمارسوا هوايتهم في قنص ضحاياهم وكأنهم يلعبون لعبة إلكترونيّة في عالم إفتراضي.
وتكريساً لإستراتيجيّة النظام قامت القوات العسكريّة باعتقال وتعذيب أطفال في عمر الورود، ثم جرى قتلهم بعد ذلك والتمثيل في جثثهم. والأنكى من ذلك، أن الجثث تسلّم لذويها من قبل السلطات بدم بارد، لتوصيل رسالة مفادها (هذا هو مصير كل من يجرؤ على نقد النظام أو التفكير في تغييره). ومن الأمثلة على فظاعة وقسوة النظام في هذه المرحلة استشهاد الطفل حمزة الخطيب تحت التعذيب ثم قطع أعضائه التناسليّة، وذبح المطرب إبراهيم قاشوش “مغنّي الثورة” وقطع حنجرته ثم إلقاء جثّته في نهر العاصي، كما قام شبيحة النظام بكسر أصابع رسام الكاريكاتير علي فرزات لرسومه المناهضة للنظام، وتلا ذلك قتل المُصوّر فرزات جربان واقتلاع عينيه بعد تصويره لمظاهرات حمص، عدا عن اقتحام البيوت والقتل الجماعي والوحشي لعائلات بأكملها وذبحهم ذبح النعاج.
ولكن هذه الاستراتيجية أثبتت فشلها في لجم المعارضة والحد من الاحتجاجات الشعبيّة، التي نمت وخرجت عن سيطرة النظام، فكان لا بد من تعديل هذه الاستراتيجية، لتتماشى مع تطور الأحداث، لذا بدأ النظام السوري العمل بجديّة على دفع الثورة السوريّة التي استمرت لمدة ستة شهور دون أن يحمل فيها المتظاهرون أي سلاح، لتحويلها إلى معارضة مسلّحة، ليسهل بعد ذلك التعامل معها عسكريّاً وإسقاط تهمة الإرهاب والتطرّف عليها، تمهيداً لدخول البلاد في مواجهة مسلّحة بين معسكرين، معسكر الجيش النظامي ومعسكر قوى الظلام والإرهاب. وهنا يضرب النظام السوري عصفورين بحجر واحد، يقضي على الثورة الشعبيّة من جهة بتحويلها إلى ميليشيات مسلحة، ومن جهة أخرى يكسب تعاطف طيف واسع من الشعوب العربية المفتونين بنظرية المؤامرة والمخدوعين بكذبة المقاومة والممانعة، ويكسب كذلك دعم دول العالم الغربي لوجود عدو مشترك، ألا وهو الإرهاب والتطرّف. ومن يتابع تصريحات النظام السوري في تلك الفترة بالذات وبالأخص بشار الجعفري، وحديثه عن وجود القاعدة في سوريّا وأن المجتمع الدولي تقع عليه مسؤولية حماية سوريا والسوريين من الإرهاب والتطرّف، يعي ذلك جيداً، وهو ما يفسّر الإنفلات الأمني المفاجىء على الحدود السوريّة والانتشار السريع والتوغل العميق للجماعات المتطرّفة داخل المناطق السوريّة.
من المؤسف أن الثورة السورية وقعت في الفخ وانتقلت بالفعل إلى مرحلة المعارضة المسلّحة، لأسباب عدّة تضاف إلى ما ذكرناه سابقاً على رأسها تقاعس الأنظمة العربية عن نجدة الشعب السوري ووضع حد لمجازر النظام، تلاه تقاعس دولي واضح وانشقاق في مجلس الأمن حول استخراج قرارت حاسمة ناهيك عن عدم وجود رغبة دولية حقيقية لنجدة الشعب السوري المغلوب على أمره. وزاد الطين بلّة دعم دول الجوار للمعارضة المسلّحة وتقديم العون لها، مما سمح بشق صف الثورة السورية السلمية وإنسلال الجماعات المتطرفة إلى ساحة الصراع في سوريا، قابله دعم روسيا وإيران والعراق وحزب الله للنظام السوري ومدّه بالأفراد والمال والعتاد، مما فتح البلاد على مصراعيها للاقتتال الطائفي. وبلغت الأمور ذروتها مع منتصف عام 2013 بإعلان قيام تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام (داعش) وسيطرته على مساحات واسعة من سوريا والعراق.
ومع مرور الذكرى الرابعة للثورة السوريّة تتحقق مساعي النظام السوري وتثبت “نبوءة” الجعفري صحتها بتكوين التحالف الدولي ضد الإرهاب (داعش والنصرة وغيرها من التنظيمات)، وهو الهدف الذي سعى إليه النظام السوري منذ وقت بعيد. وبهذا يبقّى هدف واحد على أجندة النظام السوري وهو اعتراف دولي بشرعيّة حرب نظام الأسد ضد الإرهاب، وانضمامه رسميّاً إلى التحالف الدولي. وبهذا يكون النظام السوري وبمعاونة أتباعه من المثقفين والمقاومين والممانعين قد طووا صفحة الثورة السوريّة إلى الأبد، ليتفرّغوا بعد ذلك للمعركة الكبرى، أقصد معركة تحرير الأقصى!!