انطلقت الثورة السورية في مارس/آذار 2011 متأثرة بما أطلق عليه اسم الربيع العربي، وقد سبق الشعب السوري كل من الشعب التونسي والمصري والليبي واليمني بحراك جماهيري تراوح بين الحراك السلمي والثورة المسلحة.
وقد نجحت جميع تلك الشعوب ولأسباب وظروف موضوعية داخلية وخارجية في إسقاط رؤوس الأنظمة القديمة، ولكن أيا منها لم يتمكن بعد من إسقاط كافة أركان الأنظمة السابقة أو التخلص من بنية الدولة العميقة من أجهزة أمنية وإعلامية وقضائية ورجال أعمال وغيرها، فيما لا تزال الثورة السورية تراوح مكانها.
رغم أن جميع تلك الأنظمة تصنف على أنها أنظمة دكتاتورية فإنها تختلف عن بعضها اختلافا جذريا، وأهم أوجه الاختلاف هي في العقيدة العسكرية التي أسست عليها جيوش تلك الدول.
فقد بني الجيش اليمني على أسس قبلية ومصالح شخصية، فاختيار القادة ونطاق صلاحياتهم يعتمد على قرب أو بعد القائد من الرئيس علي عبد الله صالح، فيما تم إهمال الجيش الليبي وتحجيم قدراته لصالح الكتائب التي يقودها أبناء القذافي.
أما الجيش التونسي فقد تم إبعاده عن الحياة السياسية منذ أيام الحبيب بورقيبة وحافظ زين العابدين على ذلك التوجه، وأثر البعد الاحترافي للجيش المصري على موقفه من الثورة فوقف على الحياد، وتخلى عن رئيسه نزولا عند رغبة الشارع المصري رغم المكاسب الاقتصادية التي حققها ويحققها قادته حيث تدير القوات المسلحة ما يقارب 40% من عجلة الاقتصاد المصري.
يمثل الجيش السوري حالة خاصة، فمنذ انقلاب حسني الزعيم عام 1949 والجيش السوري يعتبر الرقم الصعب في العملية السياسية، وتعزز دوره بعد وصول حزب البعث إلى الحكم وبزوغ فجر حافظ الأسد، حيث عمد إلى إعادة صياغة العقيدة القتالية للجيش السوري ليجعل منه جيشا مسيسا عقائديا، كما أعاد بناء الجيش على أسس طائفية حيث تبلغ نسبة الضباط من الطائفة العلوية أكثر من 85% في الجيش السوري عامة، وأكثر من 95%في قوات النخبة والحرس الجمهوري والفرقة الرابعة.
كما عمد الرئيس حافظ الأسد إلى إعادة تشكيل وهيكلة الأجهزة الأمنية ليجعل منها الحارس الأمين للنظام، وجعل مبدأ الشك في الآخر هو أساس البقاء، ولضمان ولائها جعل كل جهاز يراقب الآخر، وأطلق أيدي منتسبيها للعبث في جميع مناحي حياة الشعب السوري، كل ذلك وغيره الكثير حال دون حدوث انشقاقات عمودية في الجيش السوري تحسم الوضع الميداني لصالح الثوار، فمعظمهم متورط بشكل أو بآخر والغالبية تدافع عن نفسها.
منذ أحداث المسجد العمري في درعا عمد إعلام النظام الموجه للحديث عن الإرهابيين وعن المؤامرات الخارجية التي تحاك ضد نظام المقاومة والممانعة، فيما عمدت بعض رموز النظام للتأكيد على البعد الطائفي والنزوع نحو الحرب الأهلية كما أعلنت بثينة شعبان، وأعلن الرئيس السوري أن الثورة بقيت سلمية طيلة الأشهر الستة الأولى من عمر الثورة.
تبنى النظام السوري المقاربة الأمنية منذ اللحظة الأولى مستفيدا من التجربة الإيرانية في تعاملها مع الثورة الخضراء، ولكنه تفوق عليها في تدرجه باستخدام الأسلحة، حيث عمد إلى استخدام الأسلحة الخفيفة من قبل الشبيحة تحت إشراف القوات السورية، ثم أشرك قواته المسلحة بشكل مباشر، انتقل بعدها إلى استخدام الأسلحة المتوسطة فالأسلحة الثقيلة فالطائرات العمودية ثم المدفعية والقذائف الصاروخية فصواريخ سكود فالطائرات المقاتلة فالبراميل المتفجرة والقنابل العنقودية والفراغية فالسلاح الكيميائي.
وكان من الذكاء أنه ينتقل من مستوى لآخر بشكل محدود ومتدرج ويرقب ردود الفعل العالمية، وعندما لا يجد أية ردود كان يتوسع في استخدام السلاح والانتقال إلى المستوى الذي يليه، وقد ساعده على تطبيق ذلك النهج الدعمان الإيراني والروسي المستمران.
جاء التحول الرئيسي في تعامل النظام السوري مع الحراك السلمي على إثر زيارة وزير الخارجية الروسي يرافقه مدير الاستخبارات الروسية، فعدل عن المقاربة الإيرانية إلى المقاربة الروسية أو ما عرف بمقاربة غروزني، أو عقيدة بوتين، حيث تحول الجيش السوري من المقاربة الأمنية إلى المقاربة العسكرية المفتوحة.
اتسمت العمليات العسكرية خلال عام 2012 والنصف الأول من عام 2013 بالمد والجزر، حيث حققت قوات المعارضة المسلحة إنجازات ميدانية كبيرة بدءا بما اصطلح عليه تفجير خلية الأزمة في دمشق والسيطرة على الأحياء الجنوبية من العاصمة، وإخراج مطارها الدولي عن العمل والسيطرة على معظم أراضي الغوطتين، وسيطرة شبه مطلقة على القلمون وريفي حمص الجنوبي والغربي وريف أدلب ومعظم أحياء حلب القديمة وريفها، والسيطرة على محافظة الرقة ومعظم محافظة دير الزور وغيرها الكثير حتى بلغت نسبة الأراضي المسيطر عليها من قبل قوات المعارضة المسلحة حوالي 65% من الأراضي السورية.
أجبرت الإنجازات الميدانية لقوات المعارضة المسلحة النظام السوري على مراجعة إستراتيجيته العسكرية وتحديد نقاط الضعف وآلية معالجتها، وكان من أهم نقاط الضعف لديه ما يلي:
– عدم توفر قادة مخططين على المستوى الإستراتيجي، وعدم توفر قوات أرضية موثوقة كافية، والفشل في التعامل مع البيئة الاجتماعية الداعمة للثورة.
وللتغلب على تلك الصعوبات عمد النظام إلى الاستفادة من الخبراء الروس واستقدام مستشارين إيرانيين تولوا عملية التخطيط والإشراف على التنفيذ، واتضح ذلك في العمليات العسكرية التي نفذتها القوات السورية المدعومة بالمليشيات الشيعية وقوات حزب الله في الغوطة الشرقية والقصير والقلمون.
وللتغلب على نقص القوات سمحت إيران لحزب الله بالتدخل العسكري المباشر كما تولى فيلق القدس عمليات تجنيد وتدريب الشباب الشيعي حيث تشير التقارير لوجود أكثر من واحد وعشرين تشكيلا شيعيا يزيد عدد منتسبيها عن أربعين ألف عنصر تقاتل لجانب قوات النظام، كان آخرها سرية صائدي الغزلان من إقليم ناغورنو كرباخ الخاضع للسيطرة الأرمنية.
فيما عمدت قوات النظام إلى إلحاق أكبر الضرر بالمدنيين السوريين المتواجدين في المناطق الواقعة تحت سيطرة المعارضة المسلحة، فعمدت إلى الاستخدام المفرط للبراميل المتفجرة وصواريخ سكود، وإلى الاستخدام المتكرر للسلاح الكيميائي والذي بلغ ذروته في الهجوم على بعض بلدات الغوطتين صبيحة يوم الحادي والعشرين من أغسطس/آب من العام الماضي.
أدى سقوط القصير في مايو/أيار من العام الماضي إلى إجراء تغيير رئيسي آخر على إستراتيجية العمليات المعتمدة من قبل الجيش السوري، وكانت إيران وحزب الله هما القوة الدافعة وراء هذا التغيير، حيث حاول النظام السوري بعد السيطرة على مدينة القصير تفعيل جبهة حلب خاصة منطقتي نبل والزهراء وعندما لم يحقق نجاحات هامة فتح جبهة خناصر السفيرة مطار النيرب النقارين الشيخ نجار وحقق بعض الإنجازات.
بيد أن مخططي حزب الله والمخططين الإيرانيين وبعد تزايد عمليات التفجير في لبنان أرادوا تغيير اتجاه العمليات بما يخدم المصالح الإيرانية ومصالح حزب الله، وبالتالي مصلحة النظام السوري، فتم تفعيل جبهة السيدة زينب حيث استعادت قوات النظام والقوات الداعمة لها السيطرة على بعض البلدات المحيطة بها، كما تم تشديد الحصار على الغوطة الشرقية والأحياء الجنوبية من دمشق، فيما تم تطوير العمليات الأرضية المسندة بالقوة النارية الأرضية والجوية على منطقة القلمون وريفي حمص الجنوبي والغربي، حيث باتت معظم هذه المناطق تحت سيطرة قوات النظام.
وبذلك حقق النظام السوري التواصل الجغرافي من مطار دمشق والسيدة زينب في الجنوب الشرقي من العاصمة مرورا بالقلمون وحمص إلى الساحل السوري مما يمنح النظام الفرصة للادعاء أن الأوضاع الميدانية مواتية وتسمح بإجراء الانتخابات الرئاسية في موعدها.
قابل تلك التطورات من قبل النظام وحلفائه تغيير آخر في إستراتيجية قوات المعارضة وإن لم يكن ذلك التغيير صادرا عن قيادة مركزية تمسك بمنظومتي القيادة والسيطرة، فتم فتح جبهة الساحل في الحادي والعشرين من مارس/آذار الماضي بإطلاق عملية الأنفال حيث تمكنت قوات المعارضة المسلحة من السيطرة على معبر كسب وبلدة السمرا والمرصد 45 والوصول إلى رأس البسيط، بعد هذه الاندفاعة السريعة تباطأ تقدم قوات المعارضة لعدة أسباب منها:
عدم تناسب الإمكانات مع الأهداف وعدم توحيد الجهد والقيادة وعدم وصول تعزيزات وإمدادات، والتصعيد العسكري من قبل قوات النظام والمتمثل بتكثيف القصف الجوي والصاروخي والمدفعي والهجمات المعاكسة المحدودة وعمليات بناء القوة المدعومة بعناصر حزب الله والألوية الشيعية الأخرى، وقد عمد النظام إلى استقدام قوات من حماة ودمشق لإكمال عملية بناء تلك القوة.
كما شنت قوات المعارضة السورية عدة عمليات رديفة منها صدى الأنفال وأمهات الشهداء، كما تم تفعيل جبهة الزهراء والليرمون في مدينة حلب والاستيلاء على المباني المحيطة بمقر فرع المخابرات الجوية في المدينة، كما صعد الثوار من عملياتهم في ريف إدلب خاصة في المدن المسيطرة على الطريق الدولي دمشق حلب وتحديدا مدن خان شيخون ومورك وكفر زيتا حيث عمد النظام لقصفها بالعوامل الكيميائية -غاز الكلور- عدة مرات.
التصعيد في المنطقة الشمالية أثر إيجابا على العمليات في المنطقة الجنوبية حيث تمكن الثوار من السيطرة على التلال الحمر الشرقية والغربية في ريف القنيطرة فيما تصاعدت العمليات في قرى النعيمة وبصر الحرير في ريف درعا.
قراءة متأنية لخارطة العمليات العسكرية على الجغرافيا السورية توضح للمحلل العسكري والإستراتيجي أن عدم تكافؤ القوى والقدرات القتالية بين طرفي الصراع وتشتت الجهد وتعدد القيادات وعدم توفر السلاح النوعي لدى الثوار فرض عليهم تصعيد عملياتهم العسكرية في الأطراف لعدم قدرتهم على تحقيق الحسم العسكري أو على الأقل الاحتفاظ بالإنجازات التي تم تحقيقها سابقا في مركز الثقل الجغرافي السوري، فيما نجحت قوات النظام والقوات الداعمة لها بخوض المعارك الحاسمة وكسبها في نفس المنطقة مما يمكن هذه القوات بعد الانتهاء من معركة حمص أن تطور عملياتها باتجاه الشمال والجنوب.
لا يعني تطوير العمليات العسكرية لقوات النظام القدرة على الحسم وكسب الحرب، ففي حال ثبوت حصول قوات المعارضة على صواريخ تاو الأميركية بأعداد كافية قد تقلب موازين المعركة في الشمال السوري حيث تعتبر طبيعة الأرض مناسبة جدا لهذا النوع من الأسلحة.
وفي حال حصول قوات المعارضة على أسلحة ضد الجو “وهذا غير مستبعد” فسيتم تحييد سلاح الجو السوري وعندها تمتلك قوات المعارضة قابلية الحركة الميدانية والعملياتية مما سيخلق واقعا ميدانيا جديدا لن تستطيع القوات السورية التعامل معه بكفاءة وفاعلية في ظل النقص الكبير في أعداد القوات الموثوقة.
وإذا ما استطاع الثوار تطوير عملياتهم في محافظة القنيطرة باتجاه مدينة البعث بالتزامن مع فك الحصار عن بلدة نوى والثبات في القابون وجوبر والمليحة وجميعها ضمن إمكانات الثوار المتاحة، فإن ذلك سيعيد معركة الجنوب إلى الأوضاع الميدانية التي كانت سائدة في منتصف عام 2012.
أما في حال عدم حدوث هذه التغيرات الدراماتيكية فستبقى الأوضاع العامة على ما هي عليه تتراوح بين مد وجزر ربح معركة في مكان، مقابل خسارة أخرى في مكان آخر، وهنا سيبقى الصراع المسلح يدور في حلقة مفرغة ولفترة زمنية غير محددة لعدم قدرة أي من طرفي الصراع على كسب الحرب.
وهذا الاحتمال هو الأكبر، مما يعني تدمير ما تبقى من مقومات الدولة السورية وتحولها إلى دولة فاشلة، وما سينتج عن ذلك من آثار سلبية كبيرة على دول الجوار ودول الإقليم.
يبقى الحل السياسي هو الحل الوحيد والمتاح، ولكنه يحتاج إلى إنجازات عسكرية من قبل قوات المعارضة تجبر النظام السوري على القبول، وهذا لن يتحقق إلا بتزويد قوات المعارضة المعتدلة بالأسلحة النوعية المطلوبة وتفعيل رئاسة الأركان لتمارس دورها القيادي الحقيقي.