في أعقاب قيام الولايات المتحدة بقتل قائد فيلق القدس بالحرس الثوري الإيراني، قاسم سليماني، وبينما كان البيت الأبيض يسعى لتبرير قراره وتجنب اندلاع حرب أخرى في الشرق الأوسط، كان الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين منشغلاً بالتباهي بمكانته الجديدة كمُحكم إقليمي، وفقاً لما نشره موقع “ديفينس نيوز” Defense News الأميركي.
ففي 7 يناير، بعد أيام قليلة من الضربة الجوية، التي أدت إلى مقتل سليماني، طار بوتين إلى دمشق للقاء رئيس النظام السوري، بشار الأسد.
تحركات نشطة لبوتين
ومنذ أكثر من 4 سنوات، دخلت المقاتلات الروسية أولاً الحرب الأهلية السورية، مما أدى إلى أن تميل الكفة لصالح رئيس النظام السوري المحاصر. وكان ينظر إلى هذا التحرك آنذاك باعتباره توبيخاً كبيراً للسياسة الأميركية وانقلاباً في السياسة الخارجية لموسكو أيضاً. وصمد كلا التقييمين.
وبعد رحلته إلى دمشق، مر بوتين عبر تركيا للقاء الرئيس رجب طيب أردوغان. فبعد الصدام في البداية مع أردوغان بشأن سوريا، تمكن بوتين من إقامة علاقات وثيقة مع نظيره التركي، وتعزيز توترات أنقرة مع واشنطن لتخريب السياسة الأميركية، وزيادة الأهداف الروسية وتقويض تماسك الناتو عن طريق مبيعات الأسلحة الروسية إلى تركيا.
ويأتي على رأس تلك التداعيات، زيارة المستشارة الألمانية، أنجيلا ميركل، إلى موسكو في 11 يناير لمناقشة تطورات الوضع بين الولايات المتحدة وإيران.
مكاسب روسية كبيرة
سجلت تحركات بوتين، منذ أن أصدر الرئيس الأميركي، دونالد ترمب، أمرا بتوجيه الغارة الجوية على سليماني، واحدة من أهم الاتجاهات التي تقود الأحداث في الشرق الأوسط، حيث بدأ نجم روسيا في الارتفاع.
وللوهلة الأولى، يبدو أن الوضع بين الولايات المتحدة وإيران يوفر لبوتين فرصاً مماثلة لإسقاط واشنطن كشريك مفضل للعراق.
ورداً على مقتل سليماني بالعراق، أقر البرلمان العراقي قراراً يطلب من الجيش الأميركي إخلاء القواعد العراقية التي يستخدمها جنوده في الحرب ضد تنظيم “داعش” في سوريا والعراق. ومن غير الواضح ما إذا كان الانسحاب سيحدث، لكن العلاقات الأميركية العراقية هي حتى الآن الضحية الكبرى في الخلاف الأكبر بين ترمب وإيران.
تشكك في تكرار تجربة سوريا
وبحسب الصحيفة، يتشكك بعض المحللين في أنه إذا تركت الولايات المتحدة هذه البوابة مفتوحة، فإن روسيا ستعبر منها.
وقال فلاديمير فرولوف، محلل الشئون الخارجية الروسي المستقل، لـ”Defense News”: أتشكك في أن الروس “سيهرعون إلى العراق”.
وأضاف قائلا إنهم على الأقل لن يقوموا بعملية على غرار سوريا، أو حتى كمصدر للحفاظ على الأمن، موضحاً أن “هذا من شأنه أن يجهد الجيش بشدة. أعتقد أننا سنكون منفتحين للغاية على أشكال أخرى من المساعدة مثل مبيعات الأسلحة والمدربين وتبادل المعلومات الاستخباراتية. لكن لن يتم نشر سلاح الجو”.
لا شك أن روسيا تسعى دائما إلى توسيع مبيعات الأسلحة، وهي طريقة مجربة وحقيقية للتأثير الجيوسياسي، بالإضافة إلى عقود النفط والغاز. ولكن لديها بالفعل وجود في العراق على كلتا الجبهتين، وليس من الواضح أن هناك حاجة إلى التزام أعمق ومستوى من المشاركة في العراق لتوسيع الوصول إلى تلك الأسواق.
منظومة S-400 الصاروخية
إن واحدة من صادرات الأسلحة الروسية الأكثر أهمية، والمهمة سياسيا هي الأنظمة المضادة للطائرات والدفاع الجوي. لقد وجد العراق نفسه بالفعل في تقاطع الضربات الصاروخية الأميركية والإيرانية، ومن المتوقع أن تصدر وسائل الإعلام الحكومية الروسية ضجة حول احتمال بيع منظومة دفاع جوي S-400 إلى العراق، التي تأتي على رأس قائمة أسباب توتر العلاقات الأميركية-التركية.
خيارات انتقائية بأقل تكاليف
حتى قبل مقتل سليماني على أرض عراقية، كانت لإيران السيطرة الكبيرة على العراق. قال مايكل كوفمان، رئيس برنامج روسيا في مركز أبحاث CNA بفرجينيا، إن روسيا شريك إيراني في الشرق الأوسط، ولم تواجه أبداً أي مشاكل حقيقية في الحصول على ما تريده من الحكومة العراقية.
وقال كوفمان: “إن تراجع النفوذ الأميركي مفيد للجهات الفاعلة الخارجية الأخرى في الشرق الأوسط، ولكن ليس له فائدة حقيقية تذكر بالنسبة لروسيا. إن معظم الدول غير مهتمة بدور أميركا في الشرق الأوسط، وهي بالكاد ترغب في الاستغناء عن وظيفة كونها مزود أمن لمنطقة في حالة شبه دائمة من الاضطراب”.
والأهم من ذلك، أنه لا يوجد مبرر جيوسياسي لاستبدال الولايات المتحدة بالكامل في العراق. وأكد كوفمان أن “الشرق الأوسط لم يعد بهذا القدر من الأهمية، وما زالت القوى الكبرى الأخرى تفضل أن تدير الولايات المتحدة أكبر قدر ممكن منها، في حين أنها قادرة على الانخراط بشكل انتقائي وتحقيق مصالحها [بتكاليف بسيطة نسبيا”.
وعلاوة على ذلك، يظهر المزاج السائد في موسكو علامات الابتعاد عن الشجاعة والمغامرة، التي ميزت السياسة الخارجية الروسية في السنوات الأخيرة. ومع اقتراب عام 2024، ستركز النخبة السياسية الروسية بشكل متزايد على مسألة خلافة بوتين، لأن فترته الرئاسية ستصل إلى الحد الأقصى الدستوري خلال 4 سنوات.
وأعلن بوتين في 15 يناير إصلاحات كبيرة للحكومة الروسية التي، في حال تبنيها، ستشهد انتقال بعض السلطات الرئاسية إلى البرلمان، وتشكيل مجلس استشاري جديد للدولة.
كما أعقب طرح الاقتراحات استقالة حكومة رئيس الوزراء، ديمتري ميدفيديف، فيما يعد رد فعل على التغييرات القادمة أكثر من كونه مخططاً سابق التنسيق.
الأولوية للداخل الروسي
وتشير التحركات إلى أن بوتين يشرع في مشروع الخلافة العملاق في روسيا، أو على الأقل بالخلافة في اللقب. يرى البعض أن إعادة هندسة نظام الحكم في روسيا، كوسيلة لتمسك بوتين بالسلطة مع الحفاظ على نوع من الديمقراطية القانونية. وفي كلتا الحالتين، من المرجح أن تكون الشؤون الداخلية ذات أولوية أكثر مما كانت عليه في السنوات الأخيرة.
ويلعب الشعب الروسي، أيضاً دوراً في هذا التحول، إذ يجد الكرملين صعوبة في تبرير إجراءات السياسة الخارجية الجريئة، حيث يستمر الاقتصاد الوطني في الركود ويزداد السخط العام.
وقال فرولوف: إن “هناك بعض الشكوك الآن داخل مجتمع السياسة الخارجية الروسي تجاه الاندفاع لملء كل حفرة أخلتها الولايات المتحدة. لم يعد الأمر يحظى بشعبية في الداخل، وبدأ الرأي العام في طرح الأسئلة حول ما يقوم به (في الخارج)”.
نقلا عن العربية