تكشف التسريبات التي نشرت حول اجتماع المبعوث الأميركي إلى سورية مايكل راتني مع الهيئة السياسية للائتلاف السوري المعارض جوانب من الخطوط العريضة للسياسة الأميركية إزاء سورية. فواشنطن، وفق رواية الرجل، تريد وقف الحرب واستئناف المفاوضات. لكنه يطالب المعارضة بالحوار مع روسيا، مؤكداً أن لا نية لبلاده تشكيل فيديرالية كردية.
يقدم راتني رواية ملائكية حول مرامي بلاده في سورية. يروي سبقاً خبرياً بالإعلان عن أن الروس يريدون بقاء بشار الأسد، فيما واشنطن تريد سورية جديدة من دونه. ويضع راتني تواصل بلاده مع موسكو في إطار ردّ الهزيمة عن المعارضة، والتي لولا ذلك لتمّ سحقها، وأن رفض واشنطن للتعاون العسكري مع موسكو هدفه حماية هذه المعارضة. ويجرّ المبعوث الأميركي مستمعيه إلى بيت القصيد: «تواصلوا مع الروس».
يعلن الموفد استقالة بلاده من قضية مستمعيه، وينسى أن سفير بلاده في دمشق اصطحب نظيريه البريطاني والفرنسي وذهب بهم إلى المتظاهرين في حمص عام 2011 يبارك حراكهم ويعلمهم أن العالم بقيادة أميركا معهم. يهمس الديبلوماسي الأميركي أن روسيا تضع كل فصائل المعارضة في خانة النصرة وأن بلاده تكبح جماع جيش بوتين في اجتثاث أي معارض لحكم الأسد في دمشق، وأن التدخل الأميركي لدى موسكو هو ما يفسّر امتناع الطيران الروسي عن القصف الممنهج لأحياء حلب الشرقية أثناء شن المعارضة «ملحمة حلب الكبرى» لكسر الحصار عن المدينة.
يشكو رجل واشنطن من تقاعس عربي سنّي عن الالتحاق بخطط بلاده ضد داعش ما يبرر الخيار الكردي في هذا الصدد. وهو وإن نفى أي غطاء سياسي لأي طموح كردي فيديرالي في سورية، أكد أن الأكراد مكوّن سوري لن يختفي من الساحة السورية، مطالباً المعارضة بأن تحاوره.
في ما يتناول شأن المواجهة ضد تنظيم داعش، يظهر راتني واثقاً من استراتيجية بلاده، مسيطراً على تكتيكاتها السياسية والعسكرية. تبدو معركة منبج – الرقّة في سورية ومعركة الفلوجة – الموصل في العراق معركة واحدة ذات خرائط مشتركة. تقود واشنطن حربها باختيار الحلفاء وتحديد الأعداء، وتجيد برشاقة تأجيل التناقضات التي قد تعرقل خططها. تعمل واشنطن على تدوير كل الزوايا في العراق. تدافع عن حيدر العبادي على رأس الحكومة في العراق، وتدفعُ عن سليم الجبوري تهمة الفساد لتؤمّن استقراراً على رأس البرلمان. ترعى تحالفاً بين الأكراد والعشائر العربية في شمال سورية وتؤجّل استحقاق المصير الكردي هناك. فما يريد ساكن البيت الأبيض الراهن أن يسمعه هو انجاز لافت ضد داعش يتوّج به نهاية عرضه الرئاسي ويرفد مرشّحة حزبه بحُفنات دعم يحملها غبار الحرب ضد الإرهاب، غير آبه، في هذه الفترة، بأي تطوّر «مزعج» في مصير حلب ومآلات ذلك على قصر المهاجرين في دمشق.
تتشابه وظيفة راتني لدى المعارضة السورية هذه الأيام ووظيفة وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف لدى النظام السوري عام 2013. غضبت واشنطن وحرّكت قطعها البحرية باتجاه الشواطئ السورية آنذاك إثر اتهام نظام دمشق باستخدام الأسلحة الكيماوية في الغوطة الشرقية بريف دمشق. استدعى وزير الخارجية الروسي نظيره السوري وليد المعلم وتولى بالإنابة عن الولايات المتحدة الإشراف على سحب الترسانة الكيماوية السورية.
تنسجم رواية راتني في مداولاته مع المعارضة السورية مع الوكالة التي منحتها بلاده لروسيا لـ «التصرف» في الملف السوري. جرى تلزيم المسألة السورية لفلاديمير بوتين الذي تبرّع بالعدّة والعديد في الإقدام على ما تعفف أوباما وحلفاؤه الغربيون القيام به. وليس صحيحاً الاعتقاد بسطحية طفولية أن واشنطن تروم استدراج روسيا إلى الغرق في الأوحال السورية، بل إن الولايات المتحدة واكبت الجهد الروسي بكل السُبل السياسية واللوجيستية والديبلوماسية المساعدة لإنجاح بوتين في انتاج «حلّ ما» في سورية.
يكاد المبعوث الأميركي مايكل راتني في ما تلاه في اجتماعه بوفد المعارضة أن يكون موظّفاً لدى الحكومة الروسية وليس الأميركية. محصّلة القول إن روسيا قادرة على سحقكم وهي إن فعلت فلن تلقى اعتراضاً أميركياً، وأن وزير خارجيتنا الذي يزور موسكو أكثر من واشنطن بات ينصحكم أن تتحادثوا مع الروس وليس معنا.
بيد أن في شكل التسريب ما يمكن أن يكون أخبث من مضامينه. وكأن هذا التسريب كان مقصوداً بهدف اطلاع «الشريك» الروسي على حسن السلوك الأميركي في «تطويع» المعارضة وفق الأجندة الروسية، على نحو يبرئ واشنطن من أي تجاوزات للخطوط الروسية – الأميركية التي قد تخترقها قوى المعارضة المدعومة من مرجعيات إقليمية أخرى.
لا يعبّر راتني عن الأجندة الأميركية في سورية كما قيل، بل يترجم بدقة سلوك إدارة أوباما قبل أشهر من انتخابات تشرين الثاني (نوفمبر) الرئاسية في التعاطي مع الملف السوري في بعده الثنائي بين نظام ومعارضة. وفيما تعرف واشنطن أن الحلّ السوري ليس بيد الأطراف المحلية، فإن في إمكانها بيع بضاعة لا تقدّم في ملف الصراع ولا تؤخر، على أن تسهر على تجميد الملف والحفاظ على المراوحة في شأنه بانتظار استقرار الإدارة الجديدة في واشنطن.
وفيما يجهد الكرملين في فرض وقائع جديدة في المنطقة داخل قاطرات متعددة تُراكمُ التوافق مع إسرائيل ثم ذلك مع تركيا ثم اعتماده لهمدان الإيرانية قاعدة انطلاق لطائراته الاستراتيجية، فإن واشنطن ترسم ظلال نفوذها وراء الأكراد من أقصى الشرق السوري متجاوزة الفرات غرباً باتجاه منبج والباب، فيما تنتشر قواعدها العسكرية، التي قيل أن عددها قد يصل إلى أربعة، في الشمال السوري من دون ضجيج، لتعيد تموضع الوجود الأميركي واستباق تمدده صوب الورش الأميركية في العراق.
بالنهاية قد يعمل لافروف يومياً في خدمة أجندة واشنطن، ذلك أن سكان الكرملين والجوار يعرفون حدود قوتهم والحدّ الأقصى لمناوراتهم ويدركون بأنهم لا يلعبون إلا ضمن فراغ مقصود أو مهمل. بيد أن مايكل راتني لا يفعل سوى الإيحاء لروسيا بأن ما من قوة تكبح قيصرها، حتى يحلو للوافد للبيت الأبيض أن يملأ الفراغ بالسلوك المناسب.
الحياة اللندنية