قد تكون من أكثر الأمور المفاجئة في التركة، التي سيخلفها أوباما، هي اختفاء مبدأ “عدم حدوث الشيء مرة أخرى” كمبدأ تطمح إليه السياسة الخارجية الأميركية. أنا لا أعني هنا أن أوباما هو أول رئيس يقف دون أن يحرك ساكنا أمام ما يحدث من فظائع، فهو بالتأكيد ليس الأول. مثلما توانى أوباما عن اتخاذ موقف إيجابي إزاء ما يحدث في سوريا من قتل لمئات الآلاف، وتشريد لأكثر من 11 مليونا، أي نصف عدد السكان، فعل بيل كلينتون من قبله ذلك إزاء الإبادة الجماعية في رواندا، وامتنع الرئيس جورج بوش الابن عن وضع حد لأعمال العنف في دارفور في السودان.
مع ذلك عبر كلينتون عن ندمه وأسفه لعزوفه عن القيام بأي شيء في رواندا. وطالب الأميركيون في الكنائس، والمعابد اليهودية، بوش باتخاذ خطوات لإنقاذ دارفور. كان هناك آنذاك غياب للإرادة السياسية، لكن على الأقل كان هناك شعور بعدم الارتياح، بل وربما الخزي، بسبب عدم اتخاذ الولايات المتحدة أي موقف في مواجهة ما يحدث من ذبح للأبرياء. ولم يدفع سقوط سوريا طوال السنوات الأربع الماضية في فوهة الجحيم، الذي كانت المؤشرات على وقوعه واضحة بدرجة كافية، وأكثر وضع كان من المتاح منع حدوثه من بين الثلاث كوارث سالفة الذكر، باتجاه اتخاذ قرار مصيري.
ما سبب هذا التغير؟
صحيح أن عدد الذين قتلوا في سوريا أقل ممن قتلوا في رواندا، حيث يقدر عدد القتلى في سوريا بـ220 ألفا، في حين يقدر عدد القتلى في رواندا بـ800 ألف، وكذلك كان المدى الزمني أطول. مع ذلك الأزمة السورية أكثر كارثة إنسانية ترويعا وفظاعة على مدى العقدين الماضيين بحسب ما قال مسؤولون في الأمم المتحدة. وكتبت فاليري آموس، وكيلة الأمين العام للأمم المتحدة، مؤخرا في صحيفة “واشنطن بوست” أن المواطنين السوريين العاديين “يتم تفجير منازلهم، وتعذيبهم، وانتهاك حقوقهم، وحرمانهم من الطعام، والمياه، والرعاية الصحية. لقد تمزقت الأسر، وتم تدمير المجتمعات. وكانوا يسألونني في كل زيارة: لماذا تخلى العالم عنا؟ لماذا لا يبالي أحد بنا”؟
الإجابة السائدة من واشنطن لتلك الأسئلة المطروحة اليوم هي أن العالم لا يفعل شيئا لأنه لا يوجد ما يمكن فعله. يقتل المسلمون المسلمين، وسنة وشيعة، وعلى العالم المتحضر أن يشاهد ما يحدث بأسى إلى أن تأكل النيران نفسها. هذه هي دائما الحجة التي تقدم كمبرر لعدم اتخاذ أي موقف. لقد سمعناها عند الحديث عن الهوتو والتوتسي في رواندا، وعن الصرب والكروات في البلقان.
ودائما ما تناقض هذه الحجة ذاتها، فإذا كان ما يحدث نتاج عداوة قديمة تموج بالغضب، لماذا لم يقتل الناس بعضهم بعضا منذ عدة سنوات، ولماذا لا يقتل الناس بعضهم بعضا في البلقان اليوم؟ إن القوى السياسية هي التي تطلق العنان لتلك الكراهية، وبإمكانها أيضا تحجيمها وإن كان ذلك أصعب كثيرًا.
لقد حصل أوباما على الكثير من الفرص لاتخاذ خطوات من شأنها منع ارتكاب جرائم ضد الإنسانية لا تزال ترتكب حتى هذه اللحظة. عندما بدأ الحاكم المستبد بشار الأسد الحرب على ما بدأ كحركة سلمية تطالب بالديمقراطية، كان أوباما قادرًا على السماح بتدريب مقاومة معتدلة تشارك فيها كل الطوائف. وعندما بدأ الأسد قصف المباني السكنية، التي يسكنها الأطفال بالقذائف، وهو السلاح الأساسي الذي استخدمه في هذه الحرب، مثلما كانت السواطير هي السلاح الأساسي في عملية الإبادة الجماعية في رواندا، كان في مقدور أوباما تدمير مروحيات الأسد، أو تزويد المقاومة بالأسلحة اللازمة للقيام بذلك. وكان كذلك يستطيع، بالتعاون مع حلفائه، توفير غطاء جوي من أجل عمل منطقة حظر جوي في شمال سوريا بحيث يتمكن الناس من اللجوء إلى مكان بمنأى عن هجمات نظام الأسد.
وفي كل مناسبة كان يحذر الكثيرون أوباما، ومن بينهم مستشاروه، من أن التواني عن اتخاذ خطوات سوف يسمح للمتطرفين بالتمادي واكتساب المزيد من النفوذ. والآن بعد أن ثبت أن تلك التحذيرات كانت في محلها، حيث أصبح للمتطرفين وجود، بات هذا ذريعة تكرس لعدم اتخاذ موقف.
على الجانب الآخر، اضطر أكثر من 3 ملايين طفل إلى إخلاء منازلهم، وسيكون هؤلاء جيلا ضائعا على الأرجح. وكتب غوردون براون، رئيس الوزراء البريطاني الأسبق مؤخرًا: “بعد بضع سنوات من الآن سوف ينظر العالم إلى ما حدث، ويتساءل لماذا لم يفعل الكثير منا سوى القليل”. لا يوجد أمام أوباما أي خيار لا يتضمن مخاطرة أو مضمون النجاح. بطبيعة الحال تتسم المشكلات بالصعوبة، ولهذا لم يتخذ كل من كلينتون وبوش أي موقف. ويختلف أوباما عنهما في أنه يدافع بقوة عن عدم اتخاذ أي موقف. وسأل خلال مقابلة مع صحيفة “نيو ريبابليك” بعد فترة قصيرة من إعادة انتخابه: “كيف يمكنني مقارنة عشرات الآلاف الذين قتلوا في سوريا بعشرات الآلاف الذين يقتلون حاليا في الكونغو؟” ودافع في عام 2013 في خطابه أمام الأمم المتحدة عن تحفظ الولايات المتحدة في سوريا من خلال تأكيده على أن الدفاع عن الديمقراطية وحقوق الإنسان لم يكن من “الاهتمامات الجوهرية” للولايات المتحدة، على عكس ضمان “حرية تدفق الطاقة” على سبيل المثال.
وقد يرحب البعض بهذه الواقعية الجافة المحايدة، فرغم كل شيء ما النفع الذي عاد على التوتسي من اعتراف كلينتون بخطئه؟ من الأفضل أن يتعلم الناس ألا ينتظروا إنقاذا أميركيا لن يأتي أبدا. مع ذلك إذا لم يعد منع حدوث إبادة جماعية، ووقوع جرائم ضد الإنسانية، من القيم الأميركية، فإننا بالتأكيد قد تخلينا عن قيمة مهمة للغاية. ولا يبدو أن أوباما نفسه يشعر بالارتياح تجاه عواقب منهج عام 2013، حيث أخبر توماس فريدمان من “نيويورك تايمز” خلال الشهر الحالي أنه من “الاهتمامات الأساسية” الحيلولة دون “قصف الأطفال بالقذائف وحدوث نزوح جماعي”. قد يصغي خليفة أوباما إلى تلك الكلمات ويعمل على ترجمتها إلى أفعال.
مع ذلك عبر كلينتون عن ندمه وأسفه لعزوفه عن القيام بأي شيء في رواندا. وطالب الأميركيون في الكنائس، والمعابد اليهودية، بوش باتخاذ خطوات لإنقاذ دارفور. كان هناك آنذاك غياب للإرادة السياسية، لكن على الأقل كان هناك شعور بعدم الارتياح، بل وربما الخزي، بسبب عدم اتخاذ الولايات المتحدة أي موقف في مواجهة ما يحدث من ذبح للأبرياء. ولم يدفع سقوط سوريا طوال السنوات الأربع الماضية في فوهة الجحيم، الذي كانت المؤشرات على وقوعه واضحة بدرجة كافية، وأكثر وضع كان من المتاح منع حدوثه من بين الثلاث كوارث سالفة الذكر، باتجاه اتخاذ قرار مصيري.
ما سبب هذا التغير؟
صحيح أن عدد الذين قتلوا في سوريا أقل ممن قتلوا في رواندا، حيث يقدر عدد القتلى في سوريا بـ220 ألفا، في حين يقدر عدد القتلى في رواندا بـ800 ألف، وكذلك كان المدى الزمني أطول. مع ذلك الأزمة السورية أكثر كارثة إنسانية ترويعا وفظاعة على مدى العقدين الماضيين بحسب ما قال مسؤولون في الأمم المتحدة. وكتبت فاليري آموس، وكيلة الأمين العام للأمم المتحدة، مؤخرا في صحيفة “واشنطن بوست” أن المواطنين السوريين العاديين “يتم تفجير منازلهم، وتعذيبهم، وانتهاك حقوقهم، وحرمانهم من الطعام، والمياه، والرعاية الصحية. لقد تمزقت الأسر، وتم تدمير المجتمعات. وكانوا يسألونني في كل زيارة: لماذا تخلى العالم عنا؟ لماذا لا يبالي أحد بنا”؟
الإجابة السائدة من واشنطن لتلك الأسئلة المطروحة اليوم هي أن العالم لا يفعل شيئا لأنه لا يوجد ما يمكن فعله. يقتل المسلمون المسلمين، وسنة وشيعة، وعلى العالم المتحضر أن يشاهد ما يحدث بأسى إلى أن تأكل النيران نفسها. هذه هي دائما الحجة التي تقدم كمبرر لعدم اتخاذ أي موقف. لقد سمعناها عند الحديث عن الهوتو والتوتسي في رواندا، وعن الصرب والكروات في البلقان.
ودائما ما تناقض هذه الحجة ذاتها، فإذا كان ما يحدث نتاج عداوة قديمة تموج بالغضب، لماذا لم يقتل الناس بعضهم بعضا منذ عدة سنوات، ولماذا لا يقتل الناس بعضهم بعضا في البلقان اليوم؟ إن القوى السياسية هي التي تطلق العنان لتلك الكراهية، وبإمكانها أيضا تحجيمها وإن كان ذلك أصعب كثيرًا.
لقد حصل أوباما على الكثير من الفرص لاتخاذ خطوات من شأنها منع ارتكاب جرائم ضد الإنسانية لا تزال ترتكب حتى هذه اللحظة. عندما بدأ الحاكم المستبد بشار الأسد الحرب على ما بدأ كحركة سلمية تطالب بالديمقراطية، كان أوباما قادرًا على السماح بتدريب مقاومة معتدلة تشارك فيها كل الطوائف. وعندما بدأ الأسد قصف المباني السكنية، التي يسكنها الأطفال بالقذائف، وهو السلاح الأساسي الذي استخدمه في هذه الحرب، مثلما كانت السواطير هي السلاح الأساسي في عملية الإبادة الجماعية في رواندا، كان في مقدور أوباما تدمير مروحيات الأسد، أو تزويد المقاومة بالأسلحة اللازمة للقيام بذلك. وكان كذلك يستطيع، بالتعاون مع حلفائه، توفير غطاء جوي من أجل عمل منطقة حظر جوي في شمال سوريا بحيث يتمكن الناس من اللجوء إلى مكان بمنأى عن هجمات نظام الأسد.
وفي كل مناسبة كان يحذر الكثيرون أوباما، ومن بينهم مستشاروه، من أن التواني عن اتخاذ خطوات سوف يسمح للمتطرفين بالتمادي واكتساب المزيد من النفوذ. والآن بعد أن ثبت أن تلك التحذيرات كانت في محلها، حيث أصبح للمتطرفين وجود، بات هذا ذريعة تكرس لعدم اتخاذ موقف.
على الجانب الآخر، اضطر أكثر من 3 ملايين طفل إلى إخلاء منازلهم، وسيكون هؤلاء جيلا ضائعا على الأرجح. وكتب غوردون براون، رئيس الوزراء البريطاني الأسبق مؤخرًا: “بعد بضع سنوات من الآن سوف ينظر العالم إلى ما حدث، ويتساءل لماذا لم يفعل الكثير منا سوى القليل”. لا يوجد أمام أوباما أي خيار لا يتضمن مخاطرة أو مضمون النجاح. بطبيعة الحال تتسم المشكلات بالصعوبة، ولهذا لم يتخذ كل من كلينتون وبوش أي موقف. ويختلف أوباما عنهما في أنه يدافع بقوة عن عدم اتخاذ أي موقف. وسأل خلال مقابلة مع صحيفة “نيو ريبابليك” بعد فترة قصيرة من إعادة انتخابه: “كيف يمكنني مقارنة عشرات الآلاف الذين قتلوا في سوريا بعشرات الآلاف الذين يقتلون حاليا في الكونغو؟” ودافع في عام 2013 في خطابه أمام الأمم المتحدة عن تحفظ الولايات المتحدة في سوريا من خلال تأكيده على أن الدفاع عن الديمقراطية وحقوق الإنسان لم يكن من “الاهتمامات الجوهرية” للولايات المتحدة، على عكس ضمان “حرية تدفق الطاقة” على سبيل المثال.
وقد يرحب البعض بهذه الواقعية الجافة المحايدة، فرغم كل شيء ما النفع الذي عاد على التوتسي من اعتراف كلينتون بخطئه؟ من الأفضل أن يتعلم الناس ألا ينتظروا إنقاذا أميركيا لن يأتي أبدا. مع ذلك إذا لم يعد منع حدوث إبادة جماعية، ووقوع جرائم ضد الإنسانية، من القيم الأميركية، فإننا بالتأكيد قد تخلينا عن قيمة مهمة للغاية. ولا يبدو أن أوباما نفسه يشعر بالارتياح تجاه عواقب منهج عام 2013، حيث أخبر توماس فريدمان من “نيويورك تايمز” خلال الشهر الحالي أنه من “الاهتمامات الأساسية” الحيلولة دون “قصف الأطفال بالقذائف وحدوث نزوح جماعي”. قد يصغي خليفة أوباما إلى تلك الكلمات ويعمل على ترجمتها إلى أفعال.
الشرق الاوسط