الوطن هو التاريخ, وهو الحاضر والمستقبل, في تربته تنغرس جذور الإنسان, وفي ذاكرته تدفن ملامح المكان, وهناك من قال أن للإنسان وطنان, الوطن الأول هو الأم التي تحنو على أبنائها وتضحي لأجلهم, والوطن الثاني هي الأرض التي نشأ فيها الإنسان وترعرع في ربوعها, لأن مفهوم الوطن هو مفهوم عميق ودقيق وحساس, فبدونه تكون الغربة والاغتراب, لذلك لا يوجد بديل للإنسان عن وطنه الأم.
يدرك السوريون هذه الحقيقة جيداً, ويعرفون فضل الوطن عليهم حق المعرفة, فمن ضحى بالغالي والنفيس في سبيل الدفاع عن وطنه وحرية وطنه كما ضحى هذا الشعب العظيم, والتاريخ ليس بعيد, هو موجود لنقرأ ونكتشف, ومن يقرأ التاريخ جيدا سيكتشف تلك العلاقة الوطيدة بين السوري وحبه لوطنه.
لن نبحر اليوم في مركب التاريخ بعيدا, ولكننا سنعود للوراء قليلاً, إلى التاريخ الذي انتفض فيه الشعب السوري ضد نظام الاستبداد سعيا وراء نيل الحرية والكرامة التي سلبها منهم طغيان الاستبداد, حيث بات العالم شاهدا على مأساة إنسانية صنفت بالمأساة الأسوأ خلال القرن الواحد والعشرين, بعد أن بادر نظام الاستبداد لقمع ثورة أبناء الشعب السوري بشتى وسائل القتل والإبادة, فلم يوفر في جعبته سلاحا فتاكا إلا واستخدمه, ولم يوفر سجنا ومعتقلا إلا وقد ملأه بالشبان والحرائر والمسنين والأطفال في سبيل تركيع هذا الشعب العظيم, ولكن إصرار السوريين على نيل حريتهم لم يستكين, ولم يتراجع خطوة واحدة نحو الوراء, بل زاد الشعب من ثورته وصعد من لهيبها, حتى بلغت ردة فعل النظام عليهم درجة وحشية لا توصف, فما كان من السوريين إلا النزوح الداخلي والتشرد من مكان إلى مكان, ولكن قبضة النظام العسكرية طالت كل الأمكنة التي لجأ إليها النازحون, فما كان من عدد كبير منهم إلا التوجه لخارج البلاد بحثا عن الملاذ الآمن الذي من شأنه حفظ أرواح أطفالهم, وهنا بدأت رحلة الهجرة الشاقة إلى القارة العجوز “أوروبا”, بداية من المصاعب الكبيرة عند الحدود السورية-التركية, ومرورا بالمخاطر الكبيرة جراء رحلة الزوارق المتهالكة في عرض البحر, وانتهاء بالسير على الأقدام لمسافات طويلة وقطع السهول والجبال والوديان مصطحبين الشيوخ والعجائز والأطفال.
كثيرا ما تعرضوا للابتزاز من عصابات التهريب, ومنهم من لاقى مصرعه في عرض البحر في تلك الرحلة الشاقة, ولكن الرحلة الأصعب هي رحلة جديدة لم يعتد عليها السوريون حتى الآن وهي رحلة الاغتراب والابتعاد عن الوطن الذي يحبه السوري,’ويدفع بالغالي والنفيس في سبيله, نعم هي الغربة باتت واقعا مفروضا يعيشه السوريون الذين قدموا أرواحهم طاهرة على أعتاب أرضهم المباركة.
وبالرغم من هذه الهجرة الطويلة والرحلة الشاقة, مازال السوريون المهاجرون يتتبعون أخبار بلدهم بشغف مصحوب بالدموع, وممزوج بروح الأمل علهم يعودون لمنبت جذورهم بعد زوال الطغاة..
مجلة الحدث – فادي أبو الجود