مصطفى عطية( القدس العربي)
من المشكلات المرصودة في حياتنا الثقافية والعلمية العربية مشكلة غياب النقاش النقدي المثمر، والتقييم العلمي لجهود الباحثين والنقاد، سواء كانوا أفرادا أو جماعات، وإن وجد بشكل أو بآخر فهو جزئي، وخاضع للنشاط الفردي، ويكون متراوحا ما بين الاحتفاء أو الشرح أو الهجوم، فلا يوجد تقويم حقيقي نفرز به المتميز نقديا من الناقل والشارح والمترجِم، ومن فاقدي المقدرة البحثية والنقدية. فكانت المحصلة، أن لقبَ «ناقد أدبي أكاديمي» صار يطلق على كل من التحق من نال شهادة متخصصة في المجال، وألفّ عددا من الكتب، بغض النظر عن الماهية، والتميز، والموهبة، والإضافة العلمية، ومدى جدية الطرح وعمق النهج. ومن هنا، يكون لزاما الأخذ بمنهجية نقد النقد، لغايات عدة، أبرزها تمييز الجهود والمواهب والعطاءات، والإشادة بمن أضاف وأبدع وزاد، والتنبيه على من قلّد واتبع، وترسيخ روح جادة، تقيّم الناقد الأدبي من خلال النقاش والنقد الجاد لأعماله، ورصدها، وتتبع أفكاره ومقولاته، تطبيقا وتنظيرا.
وتلك نقطة مهمة للغاية، فكم من أفكار مبثوثة في ثنايا الكتب والبحوث النقدية، لم تجد الاهتمام ولا الدراسة، فالكل يعمل بشكل فردي، والكل يبث أفكاره في دائرة ضيقة تتصل بالطلاب والأصدقاء، وندر من يمد بصره إلى الآفاق العلمية الواسعة، فيحتفل بما أبدعه الآخرون بمثل احتفاله بنفسه، فالغاية في البدء والمنتهى هي تكوين مدرسة نقدية عربية رائدة وراسخة، وهذا لن يتأتى إلا بحوار نقدي – نقدي، وما هو فوق النقدي أيضا، بأن يناقش النقاد طروحاتهم، حول النصوص والإبداعات، وحول المفاهيم والخلاصات التي يتوصلون إليها، في أجواء من الانفتاح المعرفي على العلوم والفنون، مع إعلاء الحريات واحترام الآخر، ونفي النرجسية، والارتقاء بالخطاب، واحتضان ذوي الإبداع والإضافة، والحوار الراقي الذي يبني ولا يهدم، يرشد ولا يجرح، يرتفع ولا يسفل، ساميا فوق الفردية.
فعندما نطلق مصطلح «المنجز النقدي»، فإننا نعني به التراكم الذي قام به الناقد الأدبي خلال حياته الأدبية، على مستوى التنظير والتطبيق، الرؤية والأداة، العطاء والتميز، الجهد والتوجهات، التكوين العلمي والشخصي، وغير ذلك. وهو يتلاقى مع فكرة المشروع العلمي. وإن كانا يختلفان في أوجه، فالمنجز النقدي قد يكون جامعا للتنظير والتطبيق، أو أحدهما، وقد يكون في نظريات ومناهج عديدة. أما المشروع العلمي فغالبا ما ينحصر في مجرى واحد، يتعمق عبر إصدارات متعددة، تعزز الرؤية بالتنظير، وتبرهن عليها بالتطبيق.
هناك من تسيد الساحة النقدية، أو هكذا يظن، من خلال الحضور الإعلامي والتواجد الثقافي، بدون مؤلفات أو إضافات ذات جدوى.
لذا، فمن الأهمية بمكان عند قراءة المنجز النقدي، أن تكون القراءة وفق محاور ونقاط، تمثل مدخلا لفهم طبيعة العطاء النقدي، واتساقا مع التخصص الدقيق، والرغبة الحثيثة في التميز العلمي؛ على قناعة أن أي منجز لا بد أن يمثل رؤية وطرحا وإضافة، ولا يمكن إدراك هذا إلا بالنظر إلى ما قبل، وما هو راهن، ومن ثم ننظر في ما تم على يده، والمقارنة حاضرة في الوعي والتقييم في عطاءات النقاد، ومشاريعهم البحثية، ونماذجهم التطبيقية، من أجل تمييز المجيد، والتنبيه على المقلد، والتحذير من ذوي الأصوات العالية والعلاقات العامة، الذين يملأون الندوات والفضائيات بإطلالاتهم، ويظنون أنهم نالوا الشهرة والحظوة، ويعطون نماذج رديئة تفتقد العلم والمنهجية، وتعلي من شأن الزخرفة الكلامية والمدح المجاني.
يقال ذلك، لأن هناك من تسيد الساحة النقدية، أو هكذا يظن، من خلال الحضور الإعلامي والتواجد الثقافي، بدون مؤلفات أو إضافات ذات جدوى. فلا شك في أن «النقد» في إحدى مهامه هو وساطة بين القارئ والنص الإبداعي، ما يجعله ينبض بروحانية الإبداع وجماله، أما نقد النقد فهو يمركز نفسه وسيطاً بين النص النقدي وقارئه، ليسلب النقد مرتبته تلك، وإن كان هذا ما سيجعلنا أمام سلسلة تكاد لا تنتهي من النقد، لاسيما إذا كان الفاصل بين النص النقدي الأول والجديد، متمركزاً على دراسات عديدة، كل منها يخرج بإضافة معينة على الدراسة السابقة. ومن هنا، يتوجب على ناقد النقد في تقييمه للدراسات التطبيقية أن يطلع على النص الإبداعي الأساس أولا، ويتفاعل معه، ومن ثم ينظر في المحاورات والنصوص النقدية التي تناولته، ليأتي حكمه مستقلا، غير منحاز أو تحت قراءة مسبقة.
على صعيد آخر، لابد من التنبيه على قضية الموهبة في ما يتعلق بالنقد ونقد النقد، فالموهبة النقدية تعني أن الناقد لديه القدرة والكفاءة، والهمة والرؤية والذائقة، التي تجعله يقرأ النص ويقيمه، ويتجادل معه، ويطبق عليه مفاهميه النقدية وافتراضاته. وبالتالي، تسقط المقولة الشهيرة إن الناقد مبدع فاشل، فهي مأخوذة بلاشك من عالم الحرف اليدوية، وليس من أجواء الإبداع والنقد، فالصانع الفاشل يعرف أسرار الصنعة، ولكنه يفتقد الإجادة، فيستطيع أن يقيم منتج الصانع الماهر، أو نصف الماهر بما عرف، وتلك مهمة لا تتماشى مع عالم الإبداع. وأيضا، من الخطأ التصور أن النقد محصور في ذكر الجيد والرديء، فهذا عمل أولي مع النصوص الأولى للمبدع، أما مستويات النقد فهي تلتقي مع مهارات التفكير، فهناك مستويات ثلاثة دنيا: الفهم والتذكر والتطبيق، وهناك مستويات أربعة عليا تشمل: التحليل والتركيب والنقد والتقويم. ومن خلال هذه المستويات يتم تطبيق الخبرة الجمالية، والمناهج النقدية، وعمليات الشرح والتأويل.
وأخيرا، هناك مستوى عال، يتمثل في تنظير نقد النقد، ويعني أن يخرج الناقد للنقد من اطلاعه ونقاشه لعدد من المنجزات النقدية المتنوعة بنظرية ورؤية كلية، أي أنه يبني تنظيرا على إبداع وتطبيق ونقد ونقد النقد، فيأخذ خلاصة الأبحاث والرؤى، ويستند إليها في صياغة نظريته النقدية أو الأدبية، فعمله أشبه بعمل النحلة التي امتصت رحيق زهور عديدة في حقل واحد، ومن ثم أنتجت شهدا.
وهذا عمل عظيم، لأنه يجمع الجهود المشتتة، ويؤلف بينها، وينسقها، ليخرج بتصور في النهاية، يفيد من يحمل الراية بعده.
نقلاً عن: القدس العربي