فكرة ‘المنطقة الخضراء’ تستهوي الروس، ولا شك أنهم يشعرون بأن لهم الحق في أن يكونوا مثلهم، وأن تكون لهم منطقة حصينة في سوريا يديرون منها خططهم.
لم يجد الروس سوى هذه القاعدة الجوية الواقعة في اللاذقية معقل النظام السوري لإجراء لقاءاتهم ومشاوراتهم واجتماعاتهم غير متناهية مع السوريين، جلّهم من مؤيدي النظام إن لم يكن كلهم، من بينهم رجال دين من تلامذة مفتدي الجمهورية الخارج من عباءة النظام والصديق الصدوق لآيات الله الإيرانيين. ومن بينهم أيضا سياسيون من أحزاب مرضي عنها أو حاصلة على تراخيص نظامية، كتيار “من أجل سوريا الديمقراطية” و”المؤتمر الوطني من أجل سوريا علمانية” وغيرهما، وهي نظريا أحزاب معارضة لكنها قريبة أو مقربة من موسكو والتي تتبنى سياسة لا تختلف عن سياسة النظام إلا بتفاصيل هامشية، بالإضافة إلى ممثلين عن فصائل مسلحة موالية لموسكو، وهيئات مجتمع مدني من روح النظام يقودها أشخاص وإعلاميون يوصفون بـ”المستقلين” رغم أن بعضهم يعمل ضمن “ماكينة” النظام الإعلامية.
لا فائدة في الغوص في حيثيات اللقاءات التي ستبقى متواصلة دائما وفق المسؤولين الروس، فالنتائج معروفة وتتلخص في أن سوريا باتت بخير والأوضاع جيدة، ولم يبق سوى القضاء على بعض فلول الإرهابيين بمعيّة الروس ليستقر البلد والحكم والنظام، ولتبدأ الحركة التصحيحية التي أعلن النظام عن انطلاقتها بانتخابات نيابية بعد شهرين. يليها تغيير حكومي يُضاف من خلاله بعض المعارضين للحكومة، لتصبح سوريا تعددية ديمقراطية وفق مفهوم النظام.
الأهم من أسباب ونتائج هذه الاجتماعات واللقاءات هو مكان انعقادها، ففي مطار حميميم أحدث الروس مكاتب وصالات استقبال واتصالات وأماكن استضافة، لاستقبال سوريين تكلفوا مشقة السفر من دمشق التي تبعد أكثر من 300 كم دون مبرر، حيث أنه كان من الأسهل على الطرفين أن يلتقيا في دمشق، فلا مشاكل أمنية ولا مشقّة سفر، ولا ضرورة لإضفاء طابع عسكري على لقاءات مدنية سياسية، خاصة أن لروسيا في العاصمة دمشق سفارة ضخمة ومركزا ثقافيا ومجمعات كبيرة إدارية وسكنية ومراكز عسكرية ومدنية، فضلا عن سهولة تسخير كل إمكانيات الدولة السورية لخدمة لقاءاتها هذه.
ومثل هذه اللقاءات في منطقة عسكرية محمية تذكرنا بـ”المنطقة الخضراء” في العراق، التي أنشأتها قوات التحالف الدولية التي احتلت العراق عام 2003، والتي تقع وسط بغداد على مساحة تبلغ نحو 10 كم2، وحولها الأميركيون بعد أن حصّنوها بشكل منيع إلى مقر للحكومة العراقية الانتقالية، ثم باتت مقرا للدولة من حكومة وجيش، فضلا عن احتوائها لمقر السفارة الأميركية ومقرات منظمات ووكالات حكومية وأجنبية أخرى.
يبدو أن فكرة “المنطقة الخضراء” استهوت الروس، فهم ليسوا أقل شأنا من الأميركيين، ولا شك أنهم يشعرون بأن لهم الحق في أن يكونوا مثلهم، وأن تكون لهم منطقة حصينة في سوريا يديرون منها عسكرهم وخططهم السياسية. ويُنسقون انطلاقا منها علاقتهم بالنظام والحكومة، ويستقبلون فيها ضيوفهم الروس والأجانب وكذلك زوارهم من أبناء البلد. ويتحكمون انطلاقا منها بمسارات الحلول السياسية والتصالحية والحكومية، فضلا عن إقامة حفلاتهم الغنائية الراقصة فيها، حيث شهد حميميم خلال الأسابيع الماضية العديد من الحفلات الغنائية لفنانين روس محترفين وسوريين هواة.
وفي حقيقة الأمر فإنه من الصعب إيجاد أي مبرر للروس ليقوموا بعقد اجتماعاتهم مع السوريين في تلك المنطقة ويحوّلوها إلى مقر للقاءات حزبية واجتماعية وسياسية، ويجعلوا من هذه القاعدة العسكرية نقطة استقطاب للجميع، خاصة أن دمشق كلها بيد النظام، وكذلك محافظة اللاذقية التي تبعد 25 كم عن هذه القاعدة، ومحافظة طرطوس التي تبعد أكثر من ذلك بقليل، ما يدفع إلى الاعتقاد بأن المبرر الوحيد هو بكل بساطة كان بدافع “الغيرة”. وفي الغالب هي غيرة من الأميركيين، لكن ربما تكون أيضا عقدة نقص، أو ربما اقتداء بالعم سام وخططه الرائدة أو محاولة لإقناع الآخر والذات بأن روسيا قادرة على إقامة منطقتها الخضراء كالأميركيين تماما.
ووفق هذا المنطق من المتوقع أن يشهد السوريون قريبا عمليات توسيع لهذه القاعدة لتستوعب جزءا من مؤسسات الدولة المدنية منها والعسكرية. وإن تم ذلك، فإن روسيا ستدير سوريا انطلاقا من “المنطقة الخضراء” السورية، وسينتقل جزء أساسي من النظام إليها ليدير شؤون البلد. وأسوة بالمنطقة الخضراء العراقية، ستُعقد هنا أيضا أكثر الصفقات السياسية والاقتصادية فسادا، وستُحبك كذلك فيها أكثر الخطط إشكالية، وسيقيم فيها أكثر المسؤولين نبذا من الشعب.
العربباسل العودات