في آتون حرب أهلية وحشية لا تزال مستعرة، منذ اندلعت قبل خمس سنوات، لن تستشعر أي نقص في سبل الموت في سوريا، فالناس يتضورون جوعاً حتى الموت، وخاصة في المدينة الغربية المحاصرة مضايا، ثم هناك العنف ذاته. ويظل القتل باستخدام القصف الجوي حِكراً على القوات الحكومية والدولية (حتى الآن). أما الجماعات المسلحة غير التابعة لدولة بعينها، فتقتصر أدوات القتل، التي تمتلكها على المدفعية، وغير ذلك من الأسلحة التي تُطلَق من الأرض، بما في ذلك القنابل اليدوية، والسيارات المفخخة، وبالطبع البنادق.
لقد تحولت سوريا إلى ساحة لألعاب القوى الدولية الماكرة، وتحول ما بدأ كونه احتجاجاً سلمياً ضد الحكومة إلى معركة شاملة مفتوحة للجميع، ويدفع الأطفال والنساء الثمن باهظاً في حين يتدفق المدنيون المذعورون إلى خارج البلاد.
وتتفاقم المخاطر التي يتعرض لها الشعب السوري في ظل نظام صحي يشرف على نقطة الانهيار، فقد دُمر ما يقرب من نصف سيارات الإسعاف في سوريا؛ وأكثر من ثلث المستشفيات هناك لم تعد تعمل؛ كما تباطأ تدفق الواردات من الأدوية إلى حد كبير، ولا يصل أي منها إلى المناطق التي يسيطر عليها المتمردون. كما انهار إنتاج الأدوية المحلية؛ وتغطي سوريا الآن أقل من 10% من الطلب المحلي، بعد أن كانت تلبي 90% من الطلب قبل اندلاع الصراع.
وهذا الانهيار ليس مجرد أثر جانبي مؤسف للأزمة؛ فقد خضعت المنشآت الطبية في سوريا لهجمات مباشرة وتبدو متعمدة. وقد سجلت منظمة أطباء من أجل حقوق الإنسان في شهر أكتوبر الماضي فقط 16 هجمة على المستشفيات، ضمن ما بلغ مجموعه 346 هجمة على 246 منشأة صحية، في حين دانت منظمة أطباء بلا حدود ما يسمى تكتيكات القصف المزدوج، التي بموجبها تأتي عمليات القصف الجوي للمراكز المدنية ذات الكثافة السكانية العالية متبوعة بضربات موجهة إلى أقرب المستشفيات، لاستبعاد فرص حصول المصابين والجرحى على الرعاية الطارئة، وحتى العيادات الصغيرة كانت هدفاً للقصف من قِبَل قوات تسيطر عليها الدولة.
وقد أسفرت مثل هذه الهجمات، وخاصة في إدلب وحلب وحماة، عن مقتل العديد من المرضى والأطباء والعاملين الصحيين، وتدمير سيارات الإسعاف والبنية الأساسية الصحية، كما ساعدت في دفع العاملين في المجال الطبي إلى الخروج من سوريا، وهو أمر غير مقبول بكل وضوح خاصة أن كل الدول المتورطة في الصراع وقعت على اتفاقيات جنيف، التي تحظر صراحة “توجيه أي هجوم ضد أي منطقة منشأة لإيواء الجرحى والمرضى والمدنيين..”.
الواقع أننا ليس لدينا أرقام تحصر كل الوفيات الناجمة عن الحرب في سوريا، ونحن لا نعرف على وجه الدقة عدد الأطفال، الذين ماتوا بسبب أمراض يمكن الوقاية منها نتيجة لانهيار برامج التطعيم، أو عدد الأمهات والأطفال الرُضّع الذين فقدوا حياتهم بسبب الافتقار إلى المعدات الطبية والعاملين، ولكن بعض البيانات المتنافرة عن الوفيات الناجمة عن الصراع أصبحت متاحة الآن. فمؤخراً، قَدم مركز توثيق الانتهاكات، وهو يمثل شبكة سورية لحقوق الإنسان ومؤسسة فكرية بحثية، أول مجموعة بيانات واسعة النطاق، يمكن الاعتماد عليها بشأن الوفيات بين المدنيين منذ اندلاع الصراع. وتسجل قوائم المركز 78769 حالة وفاة ــ بالاسم والسن والنوع وسبب الوفاة ــ من سبتمبر 2011 إلى يناير 2015.
ويوضح تحليل لبيانات مركز توثيق الانتهاكات أجراه مركز بحوث أوبئة الكوارث، الذي أتولى إدارته، أنه في حين كانت أغلب هذه الوفيات مسجلة في مناطق يسيطر عليها المتمردون، فإن نمط القتل كان متماثلاً في المناطق التي تسيطر عليها المعارضة والمناطق التي تسيطر عليها الحكومة. وعلى وجه التحديد، يتحمل الأطفال وطأة العنف، ففي المناطق التي يسيطر عليها المتمردون أو المناطق التي تسيطر عليها الحكومة، كانت احتمالات مقتل الأطفال بالمتفجرات أكثر ترجيحاً من احتمالات مقتل الرجال بها؛ والأطفال أكثر عُرضة للموت بفِعل القصف الجوي في المناطق التي يسيطر عليها المتمردون؛ وهم أكثر عُرضة للموت بخمس مرات، بسبب المتفجرات التي تُطلَق من الأرض في المناطق الخاضعة لسيطرة الحكومة. ولعل الأمر الأكثر ترويعاً على الإطلاق هو أن 852 طفلاً و695 امرأة، من أصل 4597 طفلاً وامرأة قتلوا بالرصاص، تم إعدامهم.
وقد لا تكون البيانات مكتملة، ولكن الأدلة المتوفرة لا بد أن تكون أكثر من كافية لحفز جهود أكثر قوة لتوفير الرعاية الطبية الأساسية وتثبيت استقرار التجمعات السكانية الهشة. ورغم إطلاق مبادرة كبرى لتحسين عمليات تسليم المساعدات الصحية والإنسانية من قِبَل وزارة التنمية الدولية في المملكة المتحدة ومؤسسة ويلكوم ترست، فإنها غير كافية على الإطلاق.
الواقع أن الاحتياج إلى عمل إنساني أقوى كثيراً في سوريا بات شديد الوضوح هذا العام. ولا بد أولاً من توفير التغطية الإعلامية المكثفة للهجمات والغارات الجوية ضد المستشفيات، والتحقيق فيها وإدانتها دولياً.
وثانياً، ينبغي للمنظمات الدولية الإنسانية أن تكثف مشاركتها مع الجمعيات الطبية والمستشفيات المحلية. ولأن تمكين المنظمات الخارجية من الوصول بشكل مباشر إلى الضحايا يكاد يكون أمراً مستحيلاً، فمن الأهمية بمكان إنشاء الشراكات مع المنظمات غير الحكومية الوطنية، ومنظمة الهلال الأحمر، وجمعيات التمريض، بل وحتى الجماعات المسلحة إذا لزم الأمر، لتسليم الخدمات على الأرض.
وثالثاً، يتعين على المجتمع الدولي أن يَعُد العدة لتلبية احتياجات الرعاية الصحية المتغيرة. ولا بد من تصميم البرامج لمعالجة أمراض مثل الحصبة، والتهاب الكبد من النوع (أ)، وداء الليشمانيات (من الأمراض الطفيلية)، وشلل الأطفال، والتهاب السحايا، وكلها أمراض آخذة في الارتفاع في سوريا وفي مخيمات اللاجئين. وهنا يشكل تحسين تدفق الواردات من الأدوية بشكل كبير ضرورة أساسية.
يتطلب تحقيق هذه الأهداف الاستعانة باستراتيجيات تستند إلى الخبرة المكتسبة من النزاعات السابقة في إدارة العمليات. ومن الممكن أن تساعد قاعدة بيانات حالات الطوارئ المعقدة، التي يصدرها مركز بحوث أوبئة الكوارث، والتي تحتوي على سجلات الصحة العامة، التي تغطي عشر سنوات من الصراعات في مختلف أنحاء العالم، بما في ذلك الحروب في دارفور والعراق والصومال، في تقديم تصور عظيم القيمة. على سبيل المثال، تشير تحليلات هذه البيانات إلى أن المدنيين النازحين داخلياً في سوريا، الذين يبلغ عددهم 13.5 مليون نازح من المرجح أن يعانوا أسوأ الآثار الصحية الناجمة عن الأزمة.
ستتكلف التدخلات الإنسانية الجديدة المال بطبيعة الحال، بيد أن الجهات المانحة الدولية كانت شديدة التركيز على أعراض الأزمة الإنسانية ــ على سبيل المثال، تركز أوروبا مواردها على السيطرة على حدودها ــ التي فشلوا في توفير الدعم اللازم للمساعدة في حلها.
من الواضح أننا في احتياج إلى استراتيجيات إنسانية مبدعة ورؤية أوسع داخل مجتمع المانحين. وكان مؤتمر دعم سوريا والمنطقة، الذي استضافته لندن مؤخراً ــ برعاية المملكة المتحدة وألمانيا والنرويج والكويت والأمم المتحدة ــ فرصة لبلورة مثل هذه الرؤية في الاستجابة للأزمات المطولة، ولكن يظل قدر كبير من العمل مطلوباً للتحضير للقمة الإنسانية العالمية التي تستضيفها إسطنبول في مايو.
إنها لضرورة أساسية أن يأتي توفير الصحة العامة والتعليم الأساسي، وخاصة لنحو 13.5 مليون نازح داخلياً، على رأس الأجندة، ولكن يتعين علينا أولاً أن نوقف الهجمات الجوية على المستشفيات والمدارس في سوريا.
البيان