فيروزة (سوريا) – قرب دالية عنب نضجت عناقيدها، تجلس فيكتوريا المغتربة في الولايات المتحدة منذ عقود في باحة منزل العائلة في وسط سوريا، محاطة بأقرباء وجيران فرحين بمجيئها للمرة الأولى منذ اندلاع النزاع الدامي في البلاد.
طيلة الفترة الماضية، لم تجرؤ فيكتوريا مباركة (53 عاما) على غرار الكثير من المغتربين السوريين على زيارة بلدها، خشية من الحرب التي اجتاحت البلاد منذ العام 2011. لكنها ومع سيطرة القوات الحكومية على مناطق واسعة، قررت كسر حاجز الخوف وزيارة بلدتها فيروزة المسيحية الواقعة على بعد بضعة كيلومترات جنوب شرق مدينة حمص.
قبل أيام وصلت فيكتوريا بعد رحلة جوية شاقة من كاليفورنيا إلى مطار بيروت، ومنها برا إلى فيروزة، برفقة ابنها البكر وزوجته الحامل وطفلهما، وابنها الصغير الذي يزور مسقط رأسه للمرة الأولى.
تقول السيدة التي تدير مع ابنها متجرا لبيع المواد الغذائية في كاليفورنيا “كنت أحن طيلة السنوات الماضية لزيارة بلدي ورؤية أقربائي لكن الشعور بالخوف تملكني. لم أجرؤ حتى على التفكير في ذلك”.
واعتادت عائلة فيكتوريا قضاء إجازة الصيف كل ثلاثة أو أربعة أعوام في بلدتها. وكانت الزيارة الأخيرة في العام 2007 قبل أن يمنعها النزاع.
وتتذكر وهي ترتدي قميصا قطنيا وبنطالا قصيرا أسود “لم يكن الوضع جيدا.. كنا نتابع الأخبار ونخاف العودة”.
وتبدي السيدة التي هاجرت منذ كانت طفلة مع والديها تفاؤلها. وتقول بينما يلهو العديد من الأطفال في باحة المنزل “الحمدلله وصلنا إلى مرحلة الأمان في سوريا. شجعنا بعضنا البعض وقررنا المجيء هذا الصيف”.
تعلو قهقهة الأقارب لدى تعداد فيكتوريا الوجبات التي ترغب في تذوقها، قبل أن تحضر من المطبخ صينية محملة بصحون من اللبنة والجبنة والزيتون والمكدوس لتناول الفطور بالإضافة إلى عناقيد عنب قطفتها من الدالية المجاورة.
على غرار فيكتوريا، وصلت منذ مطلع الشهر الحالي عشرات العائلات المغتربة إلى فيروزة، البلدة المعروفة بإقامة عدد كبير من أبنائها منذ عقود في الولايات المتحدة، التي تفرض عقوبات اقتصادية على دمشق منذ سنوات.
لم تشهد فيروزة أي معارك منذ اندلاع النزاع، لكن مناطق قريبة منها لم تكن آمنة مع سيطرة الفصائل المعارضة على أجزاء من مدينة حمص وريفها الشمالي قبل استعادة القوات الحكومية السيطرة عليهما بالكامل في 2017 و2018، عدا عن تواجد تنظيم الدولة الإسلامية في مساحات واسعة في الريف الشرقي.
وتشهد فيروزة حركة نشطة مع وصول المغتربين تباعا. ويقيم نحو ثلاثة آلاف من أبناء البلدة فيها فيما يقدر عدد المغتربين بنحو خمسة آلاف.
وتؤوي البلدة، التي تحتوي على ست كنائس، مئات العائلات المسيحية التي نزحت بعد اندلاع النزاع من مدينة حمص المجاورة وبلدات أخرى ذات غالبية مسيحية في المحافظة.
في شوارع البلدة، ترتفع لافتات عدة ابتهاجا بالمغتربين. وترحب إحداها “بعودة المغتربين إلى أرض الوطن” موقعة باسم “الجمعية الخيرية الفيروزية الأميركية”.
وقرب الباب الرئيسي لدير مار إلياس للسريان الأرثوذكس، الأكبر في البلدة، عُلقت لوحة رخامية تحدد تاريخ تشييدها بدءا من العام 1957 على نفقة مغتربين من البلدة.
ويقول كاهن الكنيسة توما كاسوحة، “ترتدي فيروزة ثوب الفرح بعودة عدد كبير من المغتربين إليها” تشجعوا على المجيء مع “عودة الأمان والسلام وبعد النقلة النوعية في الحالة الأمنية”.
وتنظم الكنيسة بدءا من الاثنين مهرجانا سنويا لأيام بمناسبة شفيعها القديس إلياس، تتضمن إحدى فعالياته وفق الكاهن لقاء مع المغتربين “الذين وصل منهم قرابة 300 عائلة حتى الآن ويتوقع أن يتضاعف في الأيام القليلة المقبلة”.
ويعتبر المسيحيون في سوريا بغالبيتهم موالين دمشق، وقد طردتهم الفصائل المعارضة والجهادية من مناطق عدة خلال سنوات النزاع.
منذ ثماني سنوات، لم تأت إليشا ميدع (14 عاما) مع عائلتها من كاليفورنيا إلى فيروزة، ما جعل تعرفها على أقربائها مهمة صعبة.
تقول الطالبة ذات الشعر الأشقر أثناء ارتيادها مسبحا على أطراف البلدة مع أصدقائها “عندما وصلت لم أتذكرهم جيدا، بدا الأمر وكأنني أتعرف إليهم للمرة الأولى”.
وتروي الفتاة التي تلف منشفة زرقاء على جسدها النحيل بلغة عربية مطعمة بالإنكليزية “كنت أعرف أن القرية آمنة ولكن ليس البلد، وأفكر دائما أننا سنزوره مجددا لكنني لم أدرك متى”.
ووصلت أليشا مع والدها وشقيقها قبل أيام لقضاء إجازة لعشرين يوما. وتقول “بخلاف ما نسمعه في أميركا عن الحرب هنا، من الجميل أن نجد البلد آمنا”.
وتقول ميشلين معلوف (22 عاما) القادمة من بنسلفانيا وهي تنفث دخان نرجيلتها قرب المسبح الذي يضيق برواده وغالبيتهم من المغتربين “كرهت نفسي حينها. لم أفهم لماذا وجهوا تلك الضربات”، مضيفة “من هم في الخارج لا يعرفون كيف يعيش الناس هنا”.
تلتقط ميشلين، وهي ترتدي فستانا أسود قصيرا فوق لباس بحر باللونين الأبيض والأسود، صورا مع أصدقائها وتنشرها على تطبيقتي إنستغرام وسناب شات.
في العام 2015، شكل زواجها من شاب لبناني تعرفت إليه عبر موقع فيسبوك، “فرصة للهرب” من سوريا كما تقول، إذ “لم يكن الوضع مطمئنا؛ خوف وناس غير مرتاحين”.
أما اليوم فالوضع تبدل كليا. وتقول “كنا نلزم منازلنا عند السابعة مساء أما اليوم فنسهر إلى الثالثة فجرا”.