أصبح الجريح السوري يخاف الموت داخل المستشفى أكثر من خارجه، في حين يترقّب الأطباء الموت وهم يخففون آلام المرضى. هو الموت الذي تخلّفه الغارات الجوية الروسية وغارات جيش النظام التي تستهدف مناطق غير خاضعة لدمشق.
“استشهد خمسة جرحى كانوا يتلقون العلاج في المستشفى، وأصيب ستة من الكادر الطبي فيه من أطباء وممرضين بالإضافة إلى مسعفين نُقِلوا إلى مستشفيات ميدانية. الشباب في حالة صدمة، وقد أخليَ المستشفى لبعض الوقت”. قد تلخّص كلمات مدير مستشفى اللطامنة في ريف حماة الشمالي الدكتور الجراح محمود عباس الحمد، بعضاً مما تعانيه المستشفيات السورية في المناطق الخاضعة لسيطرة المعارضة. وقد فرضت هذه الظروف على الكادر الطبي خيارَين قد لا يكون ثمّة ثالث لهما، في حال استمرار الوضع على ما هو عليه. وهما إما العمل تحت الأرض في مستشفيات قد لا تفي بالحاجة، أو الهجرة إلى خارج البلاد وترك الناس يواجهون مصيرهم بأنفسهم.
حتى الآن، يبدو العاملون في مستشفيات حماة أنهم لا يستسلمون على الرغم من استهدافها. فمستشفى اللطامنة، بعد الغارة التي شنها طيران النظام السوري قبل شهرين، أعاد ترتيب شؤونه، بل وعمد إلى إنشاء مستشفى ميداني داخل إحدى المغارات. لكن ذلك لم يكن كافياً، إذ استهدفته الطائرات الروسية مخلّفة فيه موتاً ودماء، بحسب ما يخبر الحمد. ويشير إلى أن هذا المستشفى هو الميداني الثاني في ريف حماة الذي يصبح خارج الخدمة للمرة الثالثة خلال شهر واحد. يضيف أن “هذا القصف أدى إلى تدمير أجزاء من المستشفى الذي كان قد حُصّن تحصيناً قوياً، لا سيّما غرفة العمليات وأجهزة الأشعة وأجهزة توليد الكهرباء”.
وكانت منظمة أطباء بلا حدود قد تحدّثت في بيان لها قبل نحو ثلاثة أسابيع، عن “ضربات جوية في شمال سورية أصابت ما لا يقل عن 12 مستشفى في الأسابيع الأخيرة، وهو ما أسفر عن مقتل 35 من المرضى والعاملين في القطاع الطبي في تصعيد جديد للقتال”. لافتة إلى أنه “بالإضافة إلى العشرات الذين قتلوا، أصيب 72 في الضربات التي قُصفت خلالها المستشفيات في محافظات حلب وإدلب وحماة، واضطرت ستة مستشفيات إلى إغلاق أبوابها”.
في السياق نفسه، أكدت الشبكة السورية لحقوق الإنسان في ديسمبر/ كانون الأول الماضي “مقتل 11 من الطواقم الطبية من قبل أطراف النزاع في سورية خلال شهر أكتوبر/ تشرين الأول الماضي”. وأشارت إلى أن “الحكومة السورية انتهكت كلاً من القانونين الدولي الإنساني والعرفي الإنساني على نحو صارخ، وبشكل خاص المادة 3 المشتركة بين اتفاقيات جنيف والقانون الدولي الإنساني، وارتكبت بذلك جرائم ترقى لأن تكون جرائم حرب باستهدافها الطواقم الطبية والمنشآت العاملة فيها، كما ارتكبت جرائم ترقى لأن تكون ضد الإنسانية”.
استهداف متكرر
في الشمال السوري، تُضاف إلى احتمالَي العمل تحت الأرض وخلف التحصينات والسواتر أو الهجرة، مشكلة أخرى في ظل النقص الحاد في المعدات والأدوات.
يُعدّ مستشفى كفرنبل الجراحي أو مستشفى أورينت للأعمال الإنسانية في مدينة كفرنبل في ريف إدلب الجنوبي الغربي، من أهم المستشفيات في الشمال، فهو يغطي مساحات واسعة من إدلب وحماة ويقدّم الخدمات مجاناً، ويستقبل كل الحالات المرضية وتلك التي تحتاج إلى إسعاف، ويضم أقساماً للجراحة وغسيل الكلى والعمليات القيصرية وأخرى.
يكفيك النظر من بعيد لتدرك حجم التحصينات المعدة لتفادي القصف الذي استهدفه مراراً وتكراراً. حوله، سواتر ترابية وأبنية إسمنتية، إذ يعدّ من أكثر المستشفيات استهدافاً في المناطق التي لا تخضع لسيطرة النظام. قبل عام، قرّرت إدارة المستشفى وقف العمل به، بعد استهداف جوي له ووفاة طبيب بالإضافة إلى عدم القدرة على العمل نتيجة الدمار الذي لحق به. لكن سرعان ما أعلنت الإدارة التحدي، وما زال العمل جارياً فيه على الرغم من الصعوبات الدائمة ومن قصف استهدفه للمرة السادسة.
وفي هذا الإطار، كانت منظمة أطباء بلا حدود قد ندّدت في بيان لها أصدرته في أغسطس/ آب الماضي، بالضربات الجوية على إدلب التي طاولت تسعة مستشفيات، من بينها ثلاثة تدعمها المنظمة. وأشارت إلى أن مركز غسيل للكلى في إدلب كان في خدمة تجمع سكاني يقدّر بنحو 30 ألف نسمة، ما زال مغلقاً نتيجة الضربات الجوية، فيما يُضطر المرضى اليوم إلى قطع مسافة 70 كيلومتراً عبر طرقات خطرة لتلقي العلاج.
هجرة الكادر الطبي
لا يبدو واقع الحال في حلب أفضل من إدلب، وقد تفاقمت الأمور بعد الغارات الروسية الجوية الأخيرة، إذ استهدفت منشآت طبية عدة في ريف حلب الجنوبي، ومنها مستشفى الحاضر الذي استهدف للمرة الثانية، في حين تعطل العمل في ثلاث نقاط طبية، بحسب ما قال المدير العام لمديرية الصحة في حلب ياسر درويش، في مؤتمر صحافي عقده قبل أيام. وحول الإجراءات التي قد تتبعها المديرية مستقبلاً لتفادي الضربات، أوضح أن “لا إجراءات نستطيع فيها تجنب الاستهداف بشكل كامل، لكن يمكن العمل على التخفيف من الآثار”. ولفت إلى “مراسلات لمنظمة الصحة العالمية عن استهداف المنشآت الطبية”.
وكانت الجمعية الطبية السورية الأميركية قد صرّحت في أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، بأن “الضربات الجوية الروسية استهدفت المستشفيين الوحيدين العاملين جنوب مدينة حلب، واللذين يعتمد عليهما نحو 350 ألف مدني لتلقي الرعاية الطبية”. واضطرت الجمعية حينها إلى “إجلاء المرضى منهما، بينما كان الكادر الطبي يطلق نداءات مستعجلة لتوفير المساعدات الطبية وسيارات الإسعاف والمواد الغذائية وحليب الأطفال للتخفيف من آثار الهجمات على المدنيين”.
وحول الوضع الذي وصلت إليه المستشفيات السورية في حلب والحلول التي تلجأ إليها في ظل القصف والصعوبات التي تعانيها، يقول مدير المكتب الصحي في مجلس محافظة حلب الحرة الدكتور عبد السلام الضعيف لـ “العربي الجديد” إن “المستشفيات استُهدفت بأكثرها بالقصف الروسي خصوصاً خلال الفترة الماضية، وقد تسبب في وقف عمل بعضها. ومستشفى بغداد في مدينة حريتان في ريف حلب الشمالي حيث أعمل، اضطررنا إلى وقف العمل لمدة 15 يوماً بسبب القصف”. يضيف أن “المشكلة الأساسية بعد بدء هجمات الطيران الروسي، هي أن 15 طبيباً من محافظة حلب وحدها تركوا العمل بسبب اشتداد القصف خلال الشهرين الماضيين وهاجروا إلى الخارج. وتقع هذه المستشفيات بين باب الهوى وباب السلامة، بالإضافة إلى مدينة حلب”.
إلى ذلك، يوضح الضعيف أن “القصف المتزايد تسبب في مشكلتين إضافيتين وهما زيادة عدد الحالات التي نستقبلها، والضغط النفسي للكادر بسبب الخوف”. يضيف أن “القصف على المعابر والمناطق الحدودية أثر كذلك على دخول المواد والمساعدات الطبية إلى المحافظة، الأمر الذي تسبب في إعاقة عمل المنشآت الطبية. حتى المكتب الصحي في مجلس المحافظة تعرّض للقصف ودمّر”. ويلفت إلى أن “السكان القاطنين حول المستشفيات أخلوا بيوتهم، لأنها أضحت أهدافاً للغارات، في حين لم يعد المرضى يقصدونها إلا للضرورة القصوى، وراحوا يلجأون إلى المراكز الصحية”.
وعن حاجة المستشفيات، يقول الضعيف إنها “كبيرة، وينقصها على سبيل المثال أجهزة أشعة مثل أجهزة التصوير الطبقي المحوري، وأجهزة تفتيت حصيات الكلى، وأدوية الأورام”. ويلفت إلى أن “ما من جهاز رنين مغناطيسي في كل محافظة حلب، لذا نضطر إلى الذهاب إلى منبج أو إدلب، فيما لا تشجّع المنظمات على جلب هكذا أجهزة بسبب استهدافها”.
مستشفيات يعتقد أنها آمنة
لا تبدو الحال في ريف اللاذقية أفضل، حيث المستشفيات الواقعة في مناطق سيطرة المعارضة السورية عرضة أيضاً للقصف الجوي. من بين المستشفيات الأربعة العاملة هناك، ظل مستشفى البرناص الواقع في قرية البرناص في الريف الشمالي الشرقي للاذقية، بمنأى عن الاستهداف إذ يبعد عن الشريط الحدودي مع تركيا نحو كيلومترين فقط. ولأن السكان يعدون هذا المستشفى آمناً نسبياً، فقد تحول مقصداً لمئات النساء في الريف الساحلي. يُذكر أن غارة روسية كانت قد وقعت على بعد أمتار منه قبل نحو شهر.
من جهته، يقول الناشط حسام الجبلاوي إن “المستشفى يخدم آلاف المدنيين من سكان جبلي التركمان والأكراد، وقد تعرض لأضرار مادية كبيرة خلال القصف الروسي الأخير، وهو ما سوف يعطّل خططاً كانت معدّة لتوسيع المستشفى”. ويلفت لـ “العربي الجديد” إلى أن “السكان بعد القصف الأخير بدأوا يتخوّفون من تعرضه للقصف في أي لحظة”.
إلى ذلك، يبدو مستشفى اليمضية القريب من الحدود السورية التركية في حال يرثى لها. من يتجول داخله يلحظ النقص الحاد في الكادر الطبي والمعدات، في وقت تشتد المعارك في جبلي الأكراد والتركمان. وهو كان قد خصص في الآونة الأخيرة للإسعاف، إذ غالباً ما يحوَّل الجرحى والمصابون إلى تركيا بسبب صعوبة استقبال الحالات الخطرة.
وهنا، كل شيء يشير إلى الفقر، من البناء العتيق غير المنظم، والغرف غير المحدثة وشبه المظلمة، والإسعاف الأولي البدائي، وصولاً إلى طرق استقبال المصابين. ويتخوف سكان المنطقة من أن يكون على قائمة الأهداف الروسية.
غياب الاختصاصات
في محافظة حمص وسط البلاد، تعاني المستشفيات في المناطق الخاضعة لسيطرة المعارضة، خصوصاً في الريف الشمالي، من غياب التخصصات بالإضافة إلى مسألة القصف والهجرة وتواضع إمكانياتها. بالتالي، تحلّ النقاط الطبية الصغيرة محلّها.
الناشط سامر الحمصي مطلع على الوضع الطبي في الريف الشمالي إذ هو عضو في إحدى الجمعيات الخيرية التي تتكفل بالعمليات الجراحية، فيقول لـ “العربي الجديد” إن “مستشفيات حمص متواضعة الإمكانيات، وهي عبارة عن نقاط طبية صغيرة، واحدة في كل قرية، تفتقر إلى الأطباء من أصحاب الاختصاص”. يضيف: “على سبيل المثال، لا يوجد في كل الريف الشمالي طبيب متخصص في أمراض العين. آخر طبيبة في المجال، فرت بعد الحملة العسكرية على الريف الشمالي. وفي منطقة الحولة مثلاً، لا يوجد أطباء من ذوي الاختصاص باستثناء طبيب متخصص في أمراض العظام وطبيب جراحة عامة، يغطيان أكثر من 80 ألف نسمة”.
ويشير الحمصي إلى أن “الطيران المروحي استهدف قبل أيام مستشفى الزعفرانة، فوقعت إصابات في الكادر الطبي ودُمّر جزء منه، وهو ما جعله يتوقف عن العمل. وثمّة حاجة كبيرة للأجهزة على مستوى الريف الشمالي، بالإضافة إلى عدم إمكانية معالجة الإصابات العصبية، نظراً لغياب أطباء متخصصين ولعدم توفّر التجهيزات. ثمّة عجز عن تقديم أي مساعدة لإصابات الرأس”. ويتابع: “في حال كانت امرأة بحاجة إلى عملية ولادة قيصرية، بعد عمليتين أو ثلاث سابقة، لن يستقبلها أحد لأنها تحتاج إلى عناية غير متوفرة في الريف الشمالي كله”.
العربي الجديد