علق مركز جيوبوليتيكال فيوتشرز الأمريكي على الزيارات الأخيرة التي قام بها مسؤولون عسكريون رفيعو المستوى من أمريكا وروسيا وإيران لأنقرة خلال الأسبوعين الماضيين، بأن تركيا استردت عافيتها بعد محاولة الانقلاب الساقط، وباتت هي من تحدد ثمن مساعدتها دون أن تلتزم بأية أجندة باستثناء أجندتها المباشرة التي تركز على الحفاظ على وحدة أراضيها وإعادة بناء جيشها واقتصادها وترك الباقين يقاتلون بعضهم بعضا.
ورصد المركز في مقال للباحث، جاكوب شابيرو، استراتيجية تركيا بعد عام من إحباط محاولة الانقلاب العسكري التي عدها أسوأ أزمة مرت بها تركيا، ورأى أن من أبرز العلامات على استعادة تركيا لعافيتها هي الطريقة التي تواجه بها الفوضى في الدول المجاورة.
منظور أنقرة
تناول شابيرو في مقدمة مقالة وجهة نظر أنقرة للأحداث في الدول المجاورة، ففي الجنوب يسحق تنظيم داعش ببطئ في العراق، ويكاد التنظيم يخسر معاقله الأخيرة، وفي سوريا يتعرض لهجمات قوات سوريا الديمقراطية المدعومة من الولايات المتحدة، ومن نظام الأسد المدعوم من روسيا. وترغب تركيا في رؤية هزيمة داعش، لكنها لا تحب من يفعلون ذلك.
ويشير شابيرو إلى أن تركيا تعد قوات سوريا الديمقراطية، كجماعة إرهابية مثل داعش، كما تعد تركيا عدوًا لنظام الأسد قبل فترة طويلة من بدء الصراح في سوريا. وفي الجنوب الشرقي، يبدو أن حكومة إقليم شمال العراق عازم على المضي قدما في استفتاء حول الاستقلال في 25 سبتمبر/ أيلول. وقد دعت تركيا حكومة الإقليم لإلغاء الاستفتاء لأنها تخشى ما يعنيه التصويت على الاستقلال لملايين الأكراد الذين يعيشون في تركيا أو على الحدود معها.
أما في الجنوب، فتتبادل إيران والسعودية الغزل أحيانا والتهديدات أحيانا أخرى، وتدخل تركيا فى هذا الشأن، وتطرح إمكانية التعاون المحدود مع إيران فى بعض المجالات ذات الاهتمام المشترك.
وفي الشمال ما تزال العلاقات التركية مع روسيا معقدة وترتبط ارتباطا وثيقا بالعلاقة بين الولايات المتحدة وروسيا. روسيا والولايات المتحدة تتعاونان بهدوء في سوريا في مكافحة داعش، لكنهما في خضم تنافس في أماكن أخرى عبر البحر الأسود من تركيا في أوكرانيا، حيث تضيق الولايات المتحدة الخناق على روسيا، فضلا عن توترات البلقان والقوقاز. وتأمل تركيا في توسيع نفوذها القديم، وهي بالفعل لاعب رئيسي في هذا الأخير. وسيؤثر النشاط الروسي في أي من هاتين المنطقتين في تركيا، ويجب أن يكون الأتراك مستعدين لذلك.
ورأى شابيرو إن رد تركيا على هذه التحديات أصبح نموذجيا للسياسة الخارجية التركية، فهي تحاول تحقيق التوازن بين جميع الأطراف المختلفة دون أن تلزم نفسها تجاه أي طرف، وأبرز مثال على ذلك عدد الزيارات رفيعة المستوى التي استضافتها تركيا في الأسابيع الأخيرة، التي بدأت بزيارة رئيس الأركان الإيراني ثم رئيس الأركان الروسي وأخيرا وزير الدفاع الأمريكي جيمس ماتيس.
مع إيران، وعدت تركيا بتعزيز التعاون العسكري، وهو أمر مفاجئ بالنظر إلى أن تركيا وإيران يطمحان إلى القيادة الإقليمية على المدى الطويل، ومصالح كل منهما لا تتوافق مع الأخرى. ومع روسيا، وافقت تركيا على التنسيق التكتيكي في سوريا ورحبت بفهم موسكو لمخاوف تركيا إزاء المخاطر التي تشكلها المجموعات الانفصالية للأكراد السوريين.
ووفقا للباحث فإن لتركيا خلافات استراتيجية أساسية مع روسيا على المدى القصير (مستقبل سوريا ومكان الأسد فيها) وعلى المدى الطويل (المنافسة في القوقاز وجنوب شرق أوروبا)، لكن هناك طرقا تكتيكية يمكن لهذه القوى أن تساعد بعضها بعضا، مثل تعاون إيران وتركيا ضد الأكراد وروسيا وتركيا ضد النفوذ الأمريكي في المنطقة، بيد أن هذه ليست تحالفات طويلة الأجل.
وفيما يتعلق بزيارة وزير الدفاع الأمريكي لأنقرة قال شابيرو إن الهدف منها كان تخفيف حدة القرار الأمريكي بتسليح الأكراد، وتبدو تركيا أكثر راحة مما كانت عليه تجاه الولايات المتحدة منذ أشهر، ولذلك فأيا كان ما وعد به ماتيس أنقرة كان له الأثر المنشود.
بين القوى العظمى
ينوه شابيرو إلى أن التوازن بين روسيا والولايات المتحدة هو ما يصعب على تركيا تحقيقه الآن. وفي السنوات المقبلة، ستجبر الضرورات التركية إلى تجاوز المناطق التي تعدها روسيا في نطاق نفوذها. ولكن تركيا ليست مستعدة لهذا الصراع، وفي الوقت نفسه تعد روسيا لاعبا حاسما في القوقاز وقوة كبيرة في الشرق الأوسط.
تتناغم ضروريات تركيا تناغما أفضل مع رؤية الولايات المتحدة للمنطقة، ولكنه ليس تناغما مثاليا، حيث تسعى الولايات المتحدة إلى توازن القوى في المنطقة وتريد تركيا مجرد حليف صغير؛ بينما ترى تركيا نفسها كقوة صاعدة لا تضطر إلى الإذعان لأحد، حتى لو كانت الولايات المتحدة. تركيا ليست قوية بما فيه الكفاية لمواجهة روسيا وأمريكا، وتملق أحدهما والخضوع له لا يجدي شيئا لتعزيز المصالح التركية سواء، وبالتالي فعلاقتها معقدة مع كليهما.
صياغة رؤية
ويؤكد شابيرو في نهاية مقاله أن الأتراك يحاولون صياغة خطة متماسكة لمتابعة مصالحهم في حدود قدراتهم. أما التهديدات التركية بالتدخل في سوريا أو مهاجمة الجماعات الكردية، فقد بقيت مجرد تهديدات دون تنفيذ. كما استبعد وزير خارجية تركيا إغلاق الحدود مع حكومة إقليم شمال العراق إذا مضت في إجراءاتها للاستفتاء.
ويضيف إن هدف تركيا الأساس هو تشويه المجموعات المسلحة الكردية السورية التي ترتبط مع تنظيم بي كي كي في تركيا أكثر من ارتباطها مع الأكراد العراقيين، وأن تستفيد من الدعم الذي يمكن أن تقدمه لروسيا والولايات المتحدة لمواءمة سياسات كل منهما مع المخاوف المباشرة لتركيا.
ويخلص إلى أن محاولة الانقلاب أضعفت تركيا لفترة وجيزة، لكنها أعطت الفرصة لأردوغان للتطهير والسعي وراء طموحات أكبر والآن، وبعد عام من الاستشفاء تستضيف تركيا كبار قادة الدفاع في الولايات المتحدة وروسيا وإيران، وكل ذلك في غضون أسبوع ونصف. ليس ذلك فحسب، ولكن هؤلاء الممثلين يأتون إلى تركيا، وتركيا هي التي تحدد ثمن مساعدتها دون أن تلتزم بأية أجندة باستثناء أجندتها المباشرة التي تركز على وحدة أراضيها، وإعادة بناء جيشها واقتصادها، في حين تترك الآخرين يضعفون أنفسهم بقتال بعضهم بعضا.
ترك برس