إن كان ثمة ما يمكن أن يوضح عواقب السياسة الخارجية الأمريكية تحت قيادة الرئيس الأمريكي باراك أوباما، فإن مضرب المثل قد يكون جلياً فيما يحدث بمدينة “مارع” شمال حلب.
فقد شهدت خلال السنوات الخمس الماضية التفاف دبابات النظام من ناحية الجنوب لقصف منازلها. كما هاجم تنظيم “الدولة الإسلامية” (داعش) المدينة من جهة الشرق مرات عديدة. وطالما شهدت المدينة قصفاً جوياً من قبل النظام وبرياً من قبل التنظيم في نفس اليوم. والآن يقاتل المدافعون عن المدينة ضد “داعش” وقوات النظام والطائرات الروسية، بالإضافة إلى العدو الجديد: “وحدات حماية الشعب” (YPG) الكردية السورية، وكلهم في آن واحد. الولايات المتحدة تدعو إلى وقف إطلاق النار، لكن لا يبدو أن تلك الدعوة قادرة على إيقاف أي من هؤلاء الأعداء الذين يهاجمون مدينة “مارع”.
وكان من المفترض أن يسري قرار بوقف الأعمال العدائية يوم الجمعة، لكن القتال لم يتوقف في “مارع” ولا في أي منطقة من الأراضي السورية. وصرحت المعارضة السورية السبت إنها اتفقت على “المبدأ” نفسه لكنها تنتظر لترى ما إذا كانت روسيا والنظام السوري سيتوقفان أيضاً. وقال سالم المسلط، المتحدث باسم اللجنة العليا للمفاوضات السورية المعارضة،لصحيفة تلغراف البريطانية “لقد تجاوزنا الموعد النهائي لوقف الأعمال العدائية الذي تم تحديده في ميونيخ ولم نتلق استجابة من النظام أو من روسيا”.
وأضاف المسلط قائلاً “حتى هذا التاريخ، في كل مرة يضع فيها المجتمع الدولي ثقته في حسن نوايا النظام السوري والجانب والروسي، تتحول شوارع حلب وحمص والبلدات السورية الأخرى إلى اللون الأحمر من كثرة الدماء التي تسيل من أبنائها”.
لم يعد جديداً القول إن الحرب في سوريا صارت معقدة للغاية، بل وخرجت تماماً عن السيطرة.
أوباما الملام
يقول بعض المحللين وكثير منهم دبلوماسيين تركوا مناصبهم- بعضهم بسبب اشمئزازه- إن الفوضى التي نشهدها الآن تحدث نتيجة قرار الرئيس أوباما بدعم المسلحين ضد الرئيس السوري بشار الأسد، ولكنه دعم متحفظ وغير صريح.
وبالفعل أرسل أوباما تلك الأسلحة من أجل دعم قوات المعارضة، بما في ذلك القوات الموجودة في مدينة “مارع”. لكنه رفض مواجهة روسيا والنظام اللذين يمتلكان أسلحة تفوق بكثير الأسلحة التي وفرها أوباما للمعارضة المسلحة، مما جعل منها هدفاً سهلاً للنظام والطائرات الروسية.
وبعد ذلك قرر أن يدعم الأكراد، لأنه أرادهم أن يقاتلوا “داعش” وقد فعلوا ذلك، لكنهم أيضاً قاتلوا أي طرف يقف في طريقهم من أجل بناء دويلة كردية شمال سوريا. حيث تقف مدينة “مارع” التي تقع شمال حلب والتي حررتها المعارضة المسلحة من أيدي النظام، في وجه هذا الهدف، فالمدينة تقع بين شطري تلك الدويلة الغربي والشرقي.
ونتيجة لذلك، صارت مجوعتان مدعومتان أمريكياً تتقاتلان من أجل السيطرة على المدينة. ولذا فليس من الغريب أن يطالب الرئيس أوباما بوقف إطلاق النار.
وتكون “وحدات حماية الشعب” (YPG) جيشاً كردياً يمثل الجناح السوري لحزب العمال الكردستاني (PKK) ذي التوجه اليساري، الذي تصنفه كل من الولايات المتحدة والمملكة المتحدة منظمة إرهابية.
على الرغم من هذا التصنيف، فإن قوة “وحدات حماية الشعب” تنبع بالأساس من الدعم الأمريكي، فقد وفرت لها الولايات المتحدة دعماً جوياً خلال مواجهاتهم المريرة ضد “داعش”، ونجحت في النهاية في الدفاع عن مدينة كوباني الحدودية. بيد أن “وحدات حماية الشعب” لا تهاجم المناطق الواقع تحت سيطرة المعارضة فحسب، بل إنها تقاتل نفس الجماعات التي أخرجت “داعش” من غرب سوريا، وهي نفسها التي ما زالت تواجه التنظيم على بعد ميلين فقط شرق مدينة “مارع”. وشن “داعش” هجوماً على المدينة خلال الأسبوع الماضي. حيث نقلت صحيفة تليغراف البريطانية عن طارق النجار، أحد المسعفين المحليين، قوله إن “داعش حاول قطع الطريق منذ يومين”.
وقد فشل هذا الهجوم على الرغم من وجود معظم المدافعين عن مدينة “مارع” في الخطوط الأمامية من أجل مواجهة “وحدات حماية الشعب” على بعد خمسة أميال فقط غرب المدينة.
سقوط مارع سيكون كارثة
من المتوقع أن يصبح الوضع كارثياً إن سقطت مدينة “مارع” في يد “وحدات حماية الشعب” أو في يد “داعش”، ليس فقط بالنسبة لسكانها المحاصرين، بل وللولايات المتحدة أيضاً. والسبب أن المدينة كانت في قلب المحاولات الغربية ومحاولات القوى الخليجية المناوئة لنظام الأسد من أجل بناء معارضة موحدة.
وقاد عبد القادر صالح، تاجر البذور المسلم السلفي، الانتفاضة في مارع، حتى صار “لواء التوحيد” الذي عمد إلى تكوينه أقوى فصيلٍ في محافظة حلب.
واستطاع اللواء جذب العديد من الأفراد للانضمام إليه من خلال التأكيد على مكانته الدينية والمحلية. ورغم شعاراته الإسلامية، فإن جنوده يعدون من الشباب المحليين الذين يرفضون بشدة إطلاق مصطلح “جماعة مسلحة” عليهم.
وحظى “لواء التوحيد” لسنوات عديدة بدعم من الحلفاء الغربيين وتركيا وقطر، فقد حصل على صواريخ كونكورس المضادة للدبابات عندما هاجمته قوات النظام، بالإضافة إلى العديد من الأسلحة المتطورة.
لكن الحقيقة أن شعور أوباما بالقلق حدث نتيجة قتال لواء التوحيد في حلب بجوار الجماعات الإسلامية المتشددة، بما في ذلك “جبهة النصرة”، فرع تنظيم القاعدة في سوريا. ومع تراجع قوات النظام، كانت النتيجة أيضاً تراجع إمداده بالأسلحة الثقيلة.
وهكذا ظل لواء التوحيد والمعارضون المسلحون بحلب متشبثين بالأراضي التي سيطروا عليها، وهي شرق مدينة حلب والريف الواقع على الحدود السورية التركية، لكنهم لم يحققوا نصراً حاسماً.
واستمر المأزق كما هو حتى تدخل الروس تدخلاً حاسماً في سبتمبر الماضي. ومع الدعم القادم من القصف الروسي تمكّن كل من قوات النظام، والآن الأكراد، من إحراز تقدمٍ على الأرض.
والآن تكمن استجابة الولايات المتحدة لما يحدث في السعي نحو تحقيق اتفاق للسلام، فقد قضى وزير الخارجية الأمريكي جون كيري شهراً كاملاً في محاولة إقناع الجانب الروسي بالتخلي عن الأسد. ويبدو أن مساعيه باءت بالفشل.
ولا يزال القتال مستمراً على الأرض، فقد قال ياسر الحاج، وهو قائد فريق كرة القدم بالمدينة سابقاً وأحد أقرباء عبد القادر صالح “لا نزال موجودين، ومعنوياتنا جيدة”. الحاج أصبح أحد صغار مشاهير المدينة المحليين، فهو المسؤول عن تنظيم رحلات الصحفيين إلى المنطقة.
ولكن عدد الخسائر البشرية تزداد في صفوف الجيش والمدنيين. وأوضح ذلك النجار، المسعف المحلي، مساء الجمعة، حيث قال: “في كل معركة يسقط 15 قتيلاً و خمسون جريحاً”.
وأضاف قائلاً “اليوم، تعرضت قرية الشيخ عيسى في الغرب لإحدى عشرة غارة جوية روسية. أخرجنا عائلة هناك، حيث قُتل ثلاثة أطفال وأبوهم وأصيبت أمهم”.
وقال إن الأمر يبدو كما لو كانت سوريا تقسم إلى مناطق كردية وسنية وعلوية.
وإن كانت تلك هي الخطة، فإن تركيا تقف في مواجهتها لرفضها إقامة دويلة كردية، وقد أصبحت إثر ذلك المدافع الأجنبي الوحيد عن مدينة مارع من خلال قصفها لـ”وحدات حماية الشعب” من ناحية حدودها.
وحصلت تركيا على مبرر إضافي للقيام بهذه الخطوة الأسبوع الماضي، بعد الهجوم الانتحاري الذي استهدف موكباً عسكرياً، والذي أعلنت جماعة منشقة عن “PKK” مسؤوليتها عنه.
وقال تشارلز ليستر، المحلل الذي شارك في مفاوضات جرت تحت رعاية أوروبية مع العديد من الفصائل المسلحة في سوريا، إن سقوط مارع ومدينة أعزاز الحدودية في الشمال يعد “ضربة معنوية كارثية” لهم، كما أنها تعتبر مؤشراً لمدى نجاعة السياسة الأمريكية.
وأضاف قائلاً “إنه من المستغرب أن تبدو إدارة الرئيس الأمريكي باراك أوباما كما لو كانت تفضل الميليشيا الكردية المسلحة التي ترتبط بكل تأكيد مع PKK المصنفة أنها منظمة إرهابية، على تركيا حليفتها في الناتو”.
وفي الوقت الراهن تم إخلاء المستشفيات في “مارع”، كما وُضعت خطة من أجل الانسحاب شمالاً.
وقد يفتح هذا الطريق نحو حرب جديدة، لكنها هذه المرة ستكون بين “داعش” ووحدات حماية الشعب، ولن يكون للسكان المحليين فيها ناقة ولا جمل، فهم لا يرجون أن يسود أحد هذين الطرفين على الآخر. وهم الآن يرددون أن “الأمريكيين تخلوا عنا”.
وقال الطبيب زكريا مبارك “إن بعض السوريين يضعون آمالهم في الأمريكيين، لكنهم خذلوهم إلى حد كبير”.
وأضاف قائلاً: “الأمريكيون يشبهون رجال الشرطة الذين يمرون أمام جريمة ولكنهم يغلقون أعينهم متظاهرين بعدم رؤية المشهد، وهذا يجعلهم شركاء في الجريمة”.
عربي