بمناطقها العمرانية الواسعة التي تعود للعصور الوسطى، عرفت أوروبا “بمجتمعات الغرباء” الذين عاشوا في العديد من البلدان الأوروبية، ومنحهم الحكام المحليون صلاحيات سمحت لهم بتطوير قواعد وإجراءات لضمان سلامة وازدهار مجتمعاتهم، إذ أسهموا في نمو التجارة والتصنيع.
ومع ذلك كان استقبال السكان الجدد في المدن الأوروبية أمرا مدروسا بعناية ومشروطا دائما، وأدرك الحكام الأوروبيون في العصور الوسطى أن حركة الأشخاص إلى مجتمعاتهم كانت ضرورة مطلقة، ومصدر خطر أيضا.
وفي كتابها الصادر حديثا “مدن الغرباء: صنع الحياة في أوروبا في العصور الوسطى”، تستعرض ميري روبين أستاذة تاريخ العصور الوسطى والحديثة بجامعة كوين ماري في لندن، ظاهرة الترحيب واستقبال الوافدين الجدد وقبولهم في مدن العصور الوسطى، وكيف أصبح الغرباء جيرانا للسكان المحليين، وكيف جعلتهم المحن والمصائب غرباء مرة أخرى.
واعتبر القرنان 12 و13 فترة نمو اقتصادي وديمغرافي في أوروبا، وأظهر بحث روبين أن المجتمعات الحضرية والحكام اتبعت سياسة الإدماج الدقيق، وجلب الغرباء إلى المدن، ونُشر الكتاب في أثناء تفشي جائحة كورونا والتغيرات التي حدثت في أعقابها.
تنوع مؤقت ومشروط
كانت عدد من المدن الأوروبية -مثل سيينا والبندقية في إيطاليا- تتمتع بالحكم الذاتي بشكل كبير، وسمحت بعض هذه المدن للعمال والتجار من الريف بالانضمام إلى المجتمع الحضري، طالما استقروا مع أسرهم وبنوا منزلا ودفعوا ضرائبهم في الوقت المناسب، بحسب مقال روبين لموقع كونفيرذيشن.
وبعد فترة من الاستقرار، قد يصبح بعضهم مواطنين كاملين -وهو خيار كان متاحا للرجال المسيحيين في أوروبا وقتها- كما دعت المدن الغرباء المفيدين للاستقرار، مثل الأطباء والمصرفيين وكتاب العدل والخبراء القانونيين والعاملين من ذوي الخبرة التقنية.
وفي بعض الممالك التي حكمتها عائلات أوروبية -مثل المجر وإنجلترا وبولندا وقشتالة- سيطر الحكام على حركة الناس والمجموعات المفضلة، واتخذوا نهجا يعزز النمو الاقتصادي، بدعوة مجموعات من التجار والممولين، مثل الفلمنك في إنجلترا واليهود واللومبارديين -الذين أتوا من إيطاليا وإسكندنافيا- في المجر.
وهكذا أصبحت المدن والبلدات في العصور الوسطى متنوعة حقا، كما كان لمجموعات بارزة من الغرباء -بسبب الدين واللغة- حضور مستمر، ووجدت مجتمعات اليهود واللومبارديين في جميع أنحاء أوروبا، وفي المدن الإسبانية عاش المسلمون والمسيحيون واليهود بأعداد كبيرة جنبا إلى جنب في زمن الأندلس العربية.
وتقول الأكاديمية البريطانية إنه رغم ذلك، فإن من الخطأ الاعتقاد أن هذه الأوضاع كانت تعني أن السلام الاجتماعي ساد في مدن العصور الوسطى، فهذا ليس صحيحا؛ إذ كانت المنافسة والريبة والتعصب موجودة بقوة، لكن الوافدين الجدد و”الغرباء” الآخرين كانوا محميين من خلال إطار قانوني مكنّهم وسمح بوجودهم، بحسب تعبيرها.
وتتابع الكاتبة القول إن نظريات الحوكمة في العصور الوسطى استندت لفكرة الصالح العام، والتي أعطت الأولوية لرفاهية المجتمع كما رأته النخبة الحاكمة، وعززت الفرص الاقتصادية من الثقة التي دعا بها الملوك والحكام ومجالس المدن الأعضاء الجدد إلى مدنهم؛ ولذا فليس من المدهش أنه عندما تغيرت الأحوال، تأثر هذا التماسك الاجتماعي المؤقت أيضا.
في البداية، أثرت سلسلة من المجاعات الرهيبة -مثل التي انتشرت في بريطانيا وويلز بين عامي 1314 و 1322- على شمال أوروبا، وبعد جيل من السكان وصل الوباء -الذي بدأ انتشاره البطيء عبر آسيا قبل قرن من الزمان- إلى أنحاء أوروبا.
ولم تكن أوروبا في العصور الوسطى تعيش “عولمة” تشبه التي نعيشها في عالمنا الحالي، ولكن كانت هناك طرق كبيرة للتجارة والسفر والغزو ربطت آسيا وأفريقيا وأوروبا، وعلى طول هذه الطرق -برا، وبحرا في وقت لاحق- وصل الطاعون إلى أوروبا، وقتلت الموجة الأولى (1347-1351) قرابة ثلث ونصف السكان الأوروبيين، وكان ذلك يعني مزيجا من الحزن والصدمة، ومدنا منهارة ومهجورة وأسرا ممزقة.
الانقسام والخلاف
ولتقييم تأثير هذه الوفيات، تقول الكاتبة: ينبغي تأمل ما حدث، إذ ارتفعت أسعار المواد الغذائية، وفقد الناس أحباءهم، وتوفي رجال الدين بأعداد كبيرة، والذين نجو هربوا إلى أماكن أكثر أمانا، لكن المعظم لم يتمكن من ذلك.
ومع ذلك كان هناك طلب كبير على العمال للحفاظ على إنتاج المواد الغذائية والسلع، وبالتالي ارتفعت أجورهم بشكل كبير، على الرغم من تشريعات الطوارئ التي أدخلها معظم الحكام لتحديد الأجور عند تفشي الطاعون.
وفي المدن المختلفة -أولا في جنوب فرنسا وإيبيريا (إسبانيا) عام 1348، ثم في “الإمبراطورية الرومانية المقدسة” عام 1349- انتشرت شائعات بأن اليهود تسببوا في موت السكان عن طريق تسميم إمدادات المياه، وهو ما أدى لقتل آلاف منهم، ودخلت لغة التقسيم والانفصال والاستبعاد في أوروبا لتشغل مساحة كانت مليئة بأفكار الصالح العام، وأصبحت فئات مثل الوافدين الجدد والفقراء أكثر عرضة للعقاب والأذى، وأحيانا للموت.
علم نفس الأوبئة
ويشبه ما حدث في العصور الوسطى، أوجها من العنصرية الجديدة التي تفشت مع انتشار الجائحة في أميركا وبلدان أوروبية. ويقول الأكاديمي البريطاني ستيفن تايلور-مؤلف كتاب “علم نفس الأوبئة”- إن هذه العنصرية أو إلقاء اللوم على مجموعات معينة من الناس مع كل تفشّ وبائي خطير، تعود جزئيا “إلى أن البشر قبليون في طبيعتهم”.
ويتابع “نحن اجتماعيون ونميل للتطور في مجموعات صغيرة. ولأن معظم الأمراض المعدية المهمة التي قضت على مجتمعات البشر جلبها أجانب، فإذا فكرت في الأوروبيين الذين استقروا في الأميركتين، فإنهم جلبوا الإنفلونزا والجدري الذي قضى على السكان الأصليين. لذا، نحن كبشر إلى حد ما لدينا رهاب الأجانب في داخلنا”.
يضيف تايلور “لا يوجد عذر للعنصرية، ولكن هذا يحدث، ويحدث كثيرا خلال تفشي الأوبئة”، بحسب تقرير لصحيفة ذا هيل الأميركية.
ويوضح تايلور أن هذا النوع من رهاب الأجانب لا يقتصر على التفاعلات بين المجموعات الثقافية أو العرقية المختلفة، ولكنه يميل أيضا إلى الحدوث داخل المجموعات أيضا، ويتابع “أعتقد أننا سنشهد انخفاضا في العنصرية، حيث تصبح هذه العدوى راسخة في أميركا الشمالية”.
هذا لأنه بمجرد أن يكون الفيروس راسخا وواسع الانتشار في أميركا، سيصبح مشكلة الجميع، “وفي بعض النواحي يمكن أن يكون الشيء الجيد الوحيد الذي يخرج من هذا التفاعل، هو: العمل على جمع المجتمعات معا للتعامل مع المشكلة”.
ويحذر تايلور من العنصرية قائلا “دعنا نسميها وباءً، لأنها ستصبح وباءً في غضون أيام أو أسابيع”، مؤكدا أن الوباء ظاهرة نفسية في الأساس.
نقلا عن: الجزيرة