تستكمل الباحثة السويسرية كريستين بيرينولي في هذا الجزء كيف تم تنفيذ عملية محو فلسطين على أرض الواقع، بعد الاستناد إلى الأساطير المؤسسة للدولة العبرية، أو أرض الميعاد كما هو شائع..
شاهد كيف يكون الأخ سبب مآسي أخوته ويسلب أملاكهم!!
حرب الاستقلال
كانت الصهيونية السياسية موسومة منذ بداياتها بالضبابية وانعدام اليقين في ما يهم التحديد الترابي. وقد وقع اختيارها على فلسطين ليس لأسباب دينية وإنما «بتاثير ارتباط تاريخي بأرض كان المصير الوطني لليهود موصولا بها». فكان من اللازم استنادًا إلى هذا الاختيار تأسيس قاعدة ترابية في فلسطين. ومن ثم مسلسل شراء الأراضي بغية توطين المهاجرين وإسباغ المشروعية على تحديد النطاق الترابي لشعب بدون أرض وتأسيس دولة إسرائيل. وتأسيسًا على ذلك جرى التشديد على الدور المحوري للطبيعة وتخصيصًا الأرض، بوصفها قابلة للتطويع أو حتمية التطويع. وكان من المألوف وصفها بأنها صحراء يباب، ولأنها تنتشي بعودة سكانها اليهود القدامى. وبصيغة مطابقة تماما لهذا الخطاب جرى تأويل حرب 1948 بشكلٍ يتجاهل تماما الفلسطينيين، وتصف هذه الحرب بكونها صراعًا من أجل الاستقلال عن البريطانيين والتحرر من وطأة ونير «الشتات»، وبتعبير آخر فإن هذه الحرب لم تكن غير صراع ضد الاستعمار نجمت عنه عودة اللاجئين.
أرض بدون شعب
جرى تدعيم هذه الرؤية إلى تلك المرحلة بالسياسات الإسرائيلية الرامية إلى محو وطمس آثار الوجود الفلسطيني. كان التأويل الصهيوني للنزوح الفلسطيني مرتبطا بالإطار النظري لعملية إعادة التحديد الترابية. وكانت مغادرة الأرض طوعية وإرادية وفي أحيان أخرى محصلة توجيهات من القادة العرب، وتسجل خسة هؤلاء المهاجرين الذين جاءوا لتوهم من بلدان أخرى، والذين لا يتوفرون على أي ارتباط بالأرض. وقد ظل هذا التمثيل لفترة طويلة غير مطعون فيه إجرائيا، إلا من لدن الفلسطينيين إلى أن جرى التشكيك فيه ومساءلته من لدن التاريخ الإسرائيلي الجديد. غير أنه ما يفتأ محتفظًا براهنيته وخصوصًا في الأوساط العلمية؛ إذ يسعى البعض إلى اعتباره صحيحًا ووجيها. علاوة على تملصها من أي مسؤولية في ما يهم مشكلة النازحين واللاجئين، فإن هذا الطرح التاريخي يرسخ أسطورة كبيرة داخل الأيديولوجية الصهيونية، وتهم فكرة أرض بدون شعب. وفي الحقيقة فإنه ما أن يتم إخلاء بلدة من سكانها، حتى يجري تدميرها تماما. وابتداء من يونيو/حزيران عام 1948 اتخذت عمليات التدمير هذه شكل مهمة سياسية تتوخى صد ومنع عودة اللاجئين. وعند نهاية سنة 1948 تصاعدت حدة الضغوط الدولية من أجل عودة اللاجئين، وكان من جراء ذلك أن اتخذت الحكومة الإسرائيلية في مايو/أيار 1949 قرارا بتصفية ما تبقى من القرى والبلدات الفلسطينية.
إعدام منهجي
وبالنسبة لغازي فلاح فإن هذا الإعدام المنهجي والمنظم للفضاء الفلسطيني في مقابل تدمير كان محصلة مواجهات بين الإسرائيليين والفلسطينيين هو الذي يسمح بنعت صراع عام 1948 بكونه حربًا شاملة. وفي دراسة دقيقة تتمحور حول محو الثقافة المادية الفلسطينية، أكد الباحث أن أماكن الحياة والبنيات التي من شأنها أن تدل على وجود ماض فلسطيني، هي التي تندثر وتمحي. والبنايات التي أفلتت من هذا المصير هي المدارس والخانات والأديرة ذات العلاقة المباشرة ببلدان أوروبية، أو بنايات جميلة غير عربية تعود إلى فترة الحروب الصليبية. واكب هذا التدمير بناء مكثف لمستوطنات زراعية. شيدت مئة وسبعون مستوطنة في الفترة ما بين 1948 و1949 فيما بنيت مئة وثلاثون في السنة الموالية. أما المستوطنات التي كانت موجودة فقد جرى توسيعها بواسطة الاستيلاء على أراضي البلدات والقرى المجاورة. وتكتسي هذه المستوطنات أهمية عسكرية وسياسية بحكم وجودها داخل النطاق الترابي للدولة العربية، وفق مخطط التقسيم الذي أقرته الأمم المتحدة عام 1947.
هكذا إذن، وفي ظرف سنتين تمت إعادة تشكيل وتحوير الفضاء الفلسطيني، استنادًا إلى فكرتين رئيستين: مراقبة التراب الفلسطيني واستئصال كل الأماكن التي تدل على الماضي العربي للمنطقة. وفوق هذه الأرض التي أصبحت صحراء يبابا، ينبغي غرس هوية جديدة وستتكفل علوم مثل الحفريات وعلم الآثار والجغرافيا وعلم الخرائط، بإضفاء الطابع الوطني الإسرائيلي على المشهد، بغية إكساب الشرعية للمشروع الصهيوني. هكذا يكون المنظور الصهيوني للفضاء الذي جرى غزوه واكتشافه، خصوصًا تلكم العلاقة بين الحاضر والماضي مكتسبة للموضوعية من خلال الواقع على الأرض، الذي يقوم بتدعيمه من خلال إكسابه تعبيرًا ماديًا يفصح عن وجوده بشكل فوري ومباشر.
قانون الآثار الإسرائيلي
يشكل قانون دولة إسرائيل الخاص بالآثار القديمة 1978 تمثيلًا لهذه الممارسات التي تستند في آن إلى السياسة والعلم. لا يحمي هذا القانون التراث الأثري، إلا إذا كان سابقا على سنة 1700 للميلاد، أو إذا كان يشتمل على قيمة تاريخية. ومن ثم يجري طرح ثلاثمئة سنة من التاريخ باستثناء بعض البنايات التي تؤرخ للرعيل المؤسس لليهود. والأدهى من ذلك، في ما يمثل نقيضًا لهذا القانون يجري تدمير بعض البنايات الفلسطينية التي يعود تاريخها إلى ما قبل 1700 بدون شعور بالذنب أو الحرج. وبهذا الصنيع يمحى ويندثر الشعب الفلسطيني من فضاء وتاريخ ما أصبح يعرف منذ 1948 بإسرائيل.
أطلال وستختفي
لم يبق علم الخرائط بدوره بمنأى عن هذه الحركية، فعلى امتداد فترة الانتداب البريطاني باءت جل محاولات الصهاينة الرامية إلى اقتراح أسماء عبرية لمواقع مختلفة بالفشل الذريع. كانت الخريطة التي أنجزتها السلطات البريطانية لا تحتوي إلا على مئتي اسم عبري تشير إلى مستوطنات يهودية. وعلاوة على أسماء بعض المواقع الدينية اليهودية المذكورة في النسخة الإنكليزية، فإن الخريطة لم تكن تشتمل إلا على أسماء مواقع عربية منسوخة باللاتينية. ومنذ إعلان قيام دولة إسرائيل بذل جهد كبير لإنجاز خرائط تعكس التغييرات الجذرية في الفضاء الفلسطيني، وتقترح أسماءعبرية للطرق والمواقع والأنهار، انسجامًا مع الفكرة التي مؤداها أن يكون تقويم الخريطة الإنجيلية منسجمًا والأهداف الوطنية الإسرائيلية. تكمن المفارقة الساخرة في أن كثيرًا من الأسماء الراهنة محرفة عن اللغة العربية. وفي الحقيقة، وحدها مئة وأربع وسبعون موقعًا كانت تشتمل على اسم في سفر العهد القديم، أو في المصادر اليهودية التاريخية. رغم ذلك وانسجاما مع نظريات المؤرخين وعلماء الآثار الإنجيليين فقد جرى الاعتراف بأن الخريطة العربية قد احتفظت، رغم بعض الانقطاع بالأسماء القديمة. وقد جرى إذن توظيف استراتيجيتين: ترجمة بعض الأسماء العربية إلى العبرية، وابتداع بعض الأسماء الجديدة بالاحتكام إلى تجانس مع الأسماء العربية. ومهما يكن فقد غيرت الآلاف من الأسماء دلالاتها ماحية بهذا الصنيع كونا دلاليًا ومستعيضة عنه بآخر. وكما يقول ميرون بينفينيست فإن الأسماء تصبح واقعا وحقيقة بمجرد رسمها على الخريطة.
في أوائل عقد الستينيات ظهرت إلى الوجود خريطة جديدة للبلاد لا تشتمل إلا على جغرافيا عبرية، وتصف واقعا آخر. وقد أصبحت هذه الخريطة أداة ليس فقط لمراقبة التراب، وإنما لامتلاكه ودائما على حساب الآخر الذي لا يملك سلطة تسمية الأشياء وإكسابها وجودًا.
شددت اللجنة المكلفة بهذه المهمة على التزامها باليقظة والحيطة وحرصها على أن لا تشطب أي خاصية مكانية من الخرائط. غير أنها أشارت في المقابل إلى اعتزامها عدم الإشارة إلى الأطلال غير المنظورة. رغم ذلك فإن الكثير من القرى الفلسطينية لا تظهر على الخرائط، رغم وجود أطلال منظورة في ما يتوفر البعض الآخر على أسماء أخرى، يرافقها هذا الرمز الدال: أثر أو طلل قديم. وما أن تطمس أو تحجب الطبيعة هذه الآثار بفعل التعرية، أو الزمن حتى تمحي هذه الرموز. وبهذا الصنيع تواصل تدعيم الخريطة الراهنة بالخريطة العبرية، في الوقت الذي استمر فيه محو كل دليل على وجود سكان في القرى العربية. وكان من جراء ذلك أن اختفت الآثار التي لم تعد منظورة من الخريطة والشأن نفسه في ما يهم أسماءها.
خريطة جديدة
في أوائل عقد الستينيات ظهرت إلى الوجود خريطة جديدة للبلاد لا تشتمل إلا على جغرافيا عبرية، وتصف واقعا آخر. وقد أصبحت هذه الخريطة أداة ليس فقط لمراقبة التراب، وإنما لامتلاكه ودائما على حساب الآخر الذي لا يملك سلطة تسمية الأشياء وإكسابها وجودًا. وحيث إنه لا وجود لاسم عربي، فإن ذلك يعني عدم وجود مكان عربي. ويكفي علاوة على الأسماء أن نلاحظ عدد المستوطنات والطرق المخصصة للمستوطنين، وعمليات الاستيلاء على الأراضي، كي نحيط علماً بأن الرهان الرئيس يتمثل في امتلاك التراب. أصبحت عملية الامتلاك هذه بواسطة المستوطنات والتوطين شاملة منذ المنعطف السياسي الحاسم لعام 1977. وقد محت بهذا الصنيع المفارقة الترابية للجيل الأول من المهاجرين الذي اختار الإقامة في السهول الساحلية عوض الهضاب الإنجيلية. وبتحليله للمبادئ الكامنة خلف اختيار موقع وهندسة المستوطنات، فإن رافي سيغال وأيال وايزمان، استنبطا بمعزل عن البلاغة الدينية المظهر الاستراتيجي الأساس.
ليست هذه المستوطنات مجرد أماكن للإقامة وإنما تخلق شبكة واسعة من التحصينات المدنية تنتشر عبر الفضاء، وتستعمل من لدن الحكومة الاسرائيلية، بهدف إدارة السلطة وإخضاع الفلسطينيين الموجودين في عين المكان، وإحلال مؤسسات عسكرية وبوليسية. وفي الحقيقة تشكل المستوطنات عملية احتلال للهضاب، وبالإضافة إلى أنها تستجيب للحاجة الأمنية، من خلال مراقبة شاملة للسهو، حيث توجد القرى الفلسطينية فانها تؤدي إلى خلق جغرافيتين وطنيتين، تحل إحداهما محل الأخرى وفق محور أفقي ورمزي:
في الأعلى توجد يهودا والسامرة وهي أرض المستوطنات والمواقع العسكرية، بطرقها الملتفة الدائرية وأنفاقها، وفي الأسفل فلسطين وهي أرض المدن والقرى بطرقها المتربة وغير المعبدة وفجاجها. وهذه الطريقة التي يتصور ويتمثل وفقها الإسرائيليون الفضاء الذي يعيشون فيه يكيف في الآن نفسه قيمهم. المراقِب والمراقَب بفتحها. غيتو ديكارتي مقابل محيط عشوائي، ثقافة مهددة مقابل صناع الصحراء، حسب تعبير بن غوريون. المدينة مقابل الصحراء. الماضي والمستقبل مقابل الحاضر. اليهود مقابل العرب. فاختفى الفضاء الفلسطيني لصالح الفضاء الإسرائيلي، ويعتبر المجال المعدل والقرى المطمورة تحت الأرض، أو المسيجة بالمستوطنات والخرائط ذات التسميات الجديدة تعبيرات عن انتصار سياسي وعسكري على الأرض، يستند إلى نفي وإلغاء الآخر الذي يفتقر إلى اسم وتاريخ وجغرافيا. ولا يعود الآخر والحالة هذه غير حضور، ينبغي إبعاده وطرده بغية تأكيد شرعية الوجود. وإذا كان هذا الجهد الكبير قد بذل من أجل محو وإلغاء الموروث غير العبري، من الفضاء فذلك ربما بسبب إدراك المعنى القوي للتجذر الفلسطيني على الأرض. تعتبر الذاكرة الفلسطينية إجرائيًا الأثر الملموس الوحيد لهذا الماضي، الذي لم يكن في المقدور استئصاله. فاللاجئون يبدعون باطراد مجالهم وأرضهم، من خلال الحكايات والسرود والممارسات والأفعال، وإنتاج خريطة ـ وإن كان الأمر متعلقا بخريطة تاريخية ـ تمثل واقعا اختفى واندثر منذ 1948 وتسمية القرى المدمرة عِوَض البلدات اليهودية الحالية، والاحتفاظ بالأسماء القديمة للمواقع تعتبر استراتيجيات رمزية لإعادة تسجيل الحضور في الماضي، كما الحاضر والمستقبل. وفي سياق هذه الدينامية تحتل الأشجار مكانة محورية باعتبارها علامات دالة على المكان وأيقونات على جذور شعبين.
نقلا عن القدس العربي