في البيت الذي ورث سلسلة طويلة من رجال الدين العلويين، كان آخرهم والده الشيخ حيدر، في قرية الحصنان قرب بيت ياشوط بريف جبلة؛ يقول محمد حيدر إنه اكتسب «أخلاق المؤمن» منذ ولادته عام 1931. وفي البعث الذي انتمى إليه وهو طالب في الإعدادية، وأقسم يمين عضويته في عيادة وهيب الغانم الذي يُنسب إليه الدور الأساسي في نشر الحزب في الساحل، ويتمتع بمناقبية عالية؛ يقول محمد حيدر إنه تلقى «أخلاق العربي». ومن الماركسية التي تأثر بها وهو شاب لاحقاً يقول إنه تعلم «أخلاق الحزبي الملتزم». غير أنه لا يخبرنا كيف أدت هذه الطبقات المتراكمة من الأخلاق إلى أن يلقب «السيد خمسة بالمائة» في أوساط الشركات الأجنبية التي تعاملت مع القطاع العام السوري، للدلالة على النسبة التي كان يقتطعها من قيمة كل صفقة يرعاها!
يقول محدّثي إن هذه العمولة، التي يثبتها باتريك سيل في كتابه «الأسد والصراع على الشرق الأوسط»، قد ارتفعت بعد مدة إلى 10%، قبل أن يكتشف حيدر طريقة أجدى للغَرف من الخزينة، بالشراكة مع مغتربين وصنائع سوريين يتولون تقديم العروض نيابة عن الشركات الأجنبية ويتكفل هو بالباقي، مما أدى إلى مضاعفة الأرباح عدة مرات عن القيمة الأصلية للبضائع والآلات التي ربما كانت خردة لا تفيد سوى من مرّروا صفقتها.
يرصد سيل انتشار الفساد في دولة حافظ الأسد، عقب حرب تشرين 1973 وما تلاها من فورة نفطية ومنح خليجية. ويعدّ محمد حيدر «مثالاً نموذجياً» لذلك، مما جعله «قدوة لأقرانه» من كبار المسؤولين الحكوميين والعسكريين الذين جمعوا ثروات طائلة. لتفسير ذلك لا يكتفي مصدرنا بالقول إن هذا كان دأب الأسد في مكافأة من دعموا انقلابه للسيطرة على البلاد وشاركوه فيه، ولكن بإيضاح أن العملية التي قادها المحامي محمد حيدر لتجريف الوزارات من الصلاحيات الفعلية تلاقت مع رغبة الرئيس الجديد في التخلص من تأثير البيروقراطية السورية العميقة، حامية «الدولة»، والتي تشكلت من مئات أو آلاف كبار الموظفين ومتوسطيهم الذين ورثهم، بمنصب أمين وزارة أو معاون وزير أو مدير مثلاً. وكانوا، مستندين إلى خبرة قانونية وقطاعية واسعة ومدعومين من مجلس الدولة والمحكمة الإدارية العليا، عائقاً أمام اليد المطلقة للأسد في تطويع الدولة، أو قل في الإطاحة بها، في سنيّ حكمه الأولى.
كان الحل الذي تولى حيدر تنفيذه هو تفعيل المؤسسات العامة الكبرى، التي يضم كل منها عدة شركات، ولا تخضع للتراتبية الصارمة الموروثة لسلسلة الرتب والرواتب، ويحوز مديرها العام صلاحية واسعة في الاستيراد والتصدير
كان الحل الذي تولى حيدر تنفيذه هو تفعيل المؤسسات العامة الكبرى، التي يضم كل منها عدة شركات، ولا تخضع للتراتبية الصارمة الموروثة لسلسلة الرتب والرواتب، ويحوز مديرها العام صلاحية واسعة في الاستيراد والتصدير وإبرام العقود والصرفيات تفوق صلاحية الوزير المقيد. إذ كان هؤلاء المديرون العامون يعيّنون بمرسوم جمهوري، بناء على اقتراح نائب رئيس مجلس الوزراء للشؤون الاقتصادية، وهو المنصب الذي شغله حيدر الذي تربع، بالتالي، على رأس حكومة ظل موازية فعالة من المديرين العامين!
في مذكراته، التي صدرت كنشر خاص عام 1998 بعنوان «البعث والبينونة الكبرى»، لا يخبرنا محمد حيدر شيئاً من هذا. إذ يتوقف عند الأيام الأخيرة قبيل انقضاض الأسد، وتياره الحزبي، على السلطة. يشرح المؤلف أن «البينونة الكبرى» التي يقصدها هي «حالة الافتراق الكامل بين مبادئ الحزب وأهدافه وبين السياسات التي مارستها القيادات». ربما كان هذا مدخلاً مناسباً ليتحدث حيدر عن نفسه وتجربته، إلا أنه اختار أن يرسم مرحلتين من حياته فقط؛ ففي القسم الأول يتناول مرحلة النضال منذ تأسيس الحزب في 1947 وحتى وصوله إلى الحكم بانقلاب 8 آذار 1963، وفي الثاني يعرض للسنوات اللاحقة حتى انقلاب «الحركة التصحيحية» التي قادها الأسد عام 1970.
يخلو القسم الأول من أي جديد تقريباً، فيما يحفل الثاني بالتفاصيل. إذ يرصد صعود التنظيمين القطريين، في كل من سوريا والعراق، على حساب القيادة القومية التاريخية للحزب الذي سيتباعد جناحاه هذان بين يمين عراقي ويسار سوري سيتكرس بعد اعتماد «بعض المنطلقات النظرية» ذات الملمح الماركسي، ثم إمساك جناح اللواء صلاح جديد بالسلطة إثر انقلاب داخلي. سيجد حيدر نفسه في تيار يسار البعث هذا، وسيستلم مهام متوسطة في القطاع الزراعي خلال إجراءات التأميم الاشتراكي، مما سيقوده إلى منصب محافظ الحسكة بين عامي 1966 و1968، تكليفاً من القيادة لتنفيذ قانون الإصلاح الزراعي وإنهاء إشكالاته هناك.
في هذه المحافظة المعقدة سكانياً سيواجه قضية الأكراد فيقترح لها مجموعة بعثية من «الحلول»؛ كاحتضان التيار الماركسي الكردي ضمن تحالف للقوى التقدمية في عموم البلاد، ضد التيار القومي الكردي الذي رأى أنه رجعي. وإجراء إحصاء عام للأكراد ومنح الجنسية لمن يثبت أن وجوده «قديم ومستمر وليس لغايات سياسية وأهداف انفصالية». وتمليك الأراضي على طول الحدود مع تركيا، بعمق 10 كم على الأقل، للفلاحين وأبناء العشائر العربية، في تغيير ديموغرافي سيطبّق لاحقاً ويطلَق عليه وصف «الحزام العربي».
في مذكراته، التي صدرت كنشر خاص عام 1998 بعنوان «البعث والبينونة الكبرى»، لا يخبرنا محمد حيدر شيئاً من هذا. إذ يتوقف عند الأيام الأخيرة قبيل انقضاض الأسد، وتياره الحزبي، على السلطة. يشرح المؤلف أن «البينونة الكبرى» التي يقصدها هي «حالة الافتراق الكامل بين مبادئ الحزب وأهدافه وبين السياسات التي مارستها القيادات». ربما كان هذا مدخلاً مناسباً ليتحدث حيدر عن نفسه وتجربته، إلا أنه اختار أن يرسم مرحلتين من حياته فقط؛ ففي القسم الأول يتناول مرحلة النضال منذ تأسيس الحزب في 1947 وحتى وصوله إلى الحكم بانقلاب 8 آذار 1963، وفي الثاني يعرض للسنوات اللاحقة حتى انقلاب «الحركة التصحيحية» التي قادها الأسد عام 1970.
يخلو القسم الأول من أي جديد تقريباً، فيما يحفل الثاني بالتفاصيل. إذ يرصد صعود التنظيمين القطريين، في كل من سوريا والعراق، على حساب القيادة القومية التاريخية للحزب الذي سيتباعد جناحاه هذان بين يمين عراقي ويسار سوري سيتكرس بعد اعتماد «بعض المنطلقات النظرية» ذات الملمح الماركسي، ثم إمساك جناح اللواء صلاح جديد بالسلطة إثر انقلاب داخلي. سيجد حيدر نفسه في تيار يسار البعث هذا، وسيستلم مهام متوسطة في القطاع الزراعي خلال إجراءات التأميم الاشتراكي، مما سيقوده إلى منصب محافظ الحسكة بين عامي 1966 و1968، تكليفاً من القيادة لتنفيذ قانون الإصلاح الزراعي وإنهاء إشكالاته هناك.
في هذه المحافظة المعقدة سكانياً سيواجه قضية الأكراد فيقترح لها مجموعة بعثية من «الحلول»؛ كاحتضان التيار الماركسي الكردي ضمن تحالف للقوى التقدمية في عموم البلاد، ضد التيار القومي الكردي الذي رأى أنه رجعي. وإجراء إحصاء عام للأكراد ومنح الجنسية لمن يثبت أن وجوده «قديم ومستمر وليس لغايات سياسية وأهداف انفصالية». وتمليك الأراضي على طول الحدود مع تركيا، بعمق 10 كم على الأقل، للفلاحين وأبناء العشائر العربية، في تغيير ديموغرافي سيطبّق لاحقاً ويطلَق عليه وصف «الحزام العربي».
مع حافظ الأسد سيصبح حيدر أحد أركان الحكم، عضواً في القيادتين القطرية والقومية وفي قيادة الجبهة الوطنية التقدمية، وزيراً للزراعة في حكومة عبد الرحمن خليفاوي الأولى، ونائباً لرئيس مجلس الوزراء للشؤون الاقتصادية، مع احتفاظه بوزارة الزراعة، في حكومة محمود الأيوبي.
تمتع أبو إياد بشبكة قوية من الصداقات بين نخبة الحكم، أهّلته لها شخصيته الدمثة المرحة. وقد شملت حافظ الأسد الذي عرفه منذ المرحلة الثانوية
تمتع أبو إياد بشبكة قوية من الصداقات بين نخبة الحكم، أهّلته لها شخصيته الدمثة المرحة. وقد شملت حافظ الأسد الذي عرفه منذ المرحلة الثانوية، ولم تنته عند قوائم ممن كان قد دعم إيفادهم لنيل الدكتوراه من دول المعسكر الاشتراكي. كما تشابكت مصاهراته مع رجال أقوياء ومسؤولين كبار؛ فشقيق زوجته العميد نزار الحلو، ضابط المخابرات العسكرية الذي صار رئيس فرع المنطقة (دمشق)، وزوج شقيقتها اللواء حسن خلوف الذي تدرّج في الجهاز نفسه حتى تسلم فرع فلسطين، ثم نائباً لمدير إدارة المخابرات العامة (أمن الدولة). بالإضافة إلى حفنة عدلاء آخرين تراوحوا بين العميد واللواء والمسؤول المدني المقرّب. أما من الجيل الجديد فسيتزوج ولده من ابنة محمود الأيوبي، وتتزوج ابنته من مضر الأسد، الابن الأكبر لرفعت.
بعد وصوله إلى قمة مجده سيأخذ نجم حيدر بالأفول على مراحل، حتى وفاته في 2017، بعد أن قضى بعض سنوات عمره عند أولاده خارج البلاد. غير أن الدرجة الأقسى التي زلقت بمكانته كانت تحالفه العلني مع أبو دريد خلال صراع الأخوين الحاسم. وقتها برز حيدر كمستشار لرفعت الذي جهّز مدفعية «سرايا الدفاع» لقصف دمشق. وكما يروي مصطفى طلاس، وزير الدفاع وقتها، فإنه قال لمستشاره: «مو حرام وأسافة أن تهدم هذه المدينة الجميلة؟!»، فأجابه حيدر: «والله صحيح حرام وأسافة، ولكن شو طالع بإيدنا غير هيك»!!
الكاتب: حسام جزماتي
نقلا عن: تلفزيون سوريا